كانتشار النار في الهشيم، انتشر مقطعٌ لسيدة لم أسمع باسمها قبلاً وهو فدوى مواهب، يبدو على ملابسها الاحتشام، تتحدث إلى فتيات في عمر الصِّبا بطريقة تعليمية بسيطة وبلُغة قريبة من جيلهن بأن ارتداء الفتاة الـ"هوت شورت" أمام والدتها في المنزل حرامٌ لأنه كاشفٌ للعورة، وهو الحكم الذي أكده -لاحقاً- الأزهر الشريف وكبار علماء الدين.. ومنذ ذلك الحين قامت الدنيا ولم تقعد؛ فطَفت على السطح صورٌ لـ"فَدوى مواهب" قبل ارتداء الحجاب ريثما كانت تعمل مخرجةً للڤيديو كليب، وصورٌ حديثة تقف فيها بجانب مطرب شهير ومعها فتياتها بغير حجاب، واتُّهمت باستغلال الدين كوسيلة للانتشار، ولا تزال ألوانُ الهجوم عليها في اختلافٍ وتنوع كل ساعة.
أسئلةٌ عدة تدقّ برأسي كعقارب الساعة مع متابعتي لهذا الصراع؛ ألا تكفل الحرية التي يتبنى مهاجمو فدوى ليلاً ونهاراً الدفاع عنها حرية المعتقد -أي معتقد- في أي وقت، وحرية الحديث عنه؟! أو الأحرى أن نسأل إن كانت تلك الحرية في الأصل تتضمن حرية أناس غيرهم؟! لماذا يوجد بابٌ مفتوح على مصراعيه طوال الوقت وباب آخر موصد وخلفه كومة من الأثاث، يُجلَد كلُّ من يحاول فتحه جلداً لا هوادة فيه؟! أم أن الحرية مضمونة والترحيب كبير بالأفكار المتدفقة -إن صح الوصف- باتجاه واحدٍ فقط؟!
مهاجمة مقطعٍ مرّ عليه من الوقت الكثيرُ أمرٌ مثيرٌ للاستنكار قليلاً، خاصة أن جمهور الصبايا المُتلقِّي أكثرهن من غير المحجبات، في انفتاحٍ من المحاضِرة ينفي عنها فزاعة "التطرُّف"، فهذه جلسة لا تقبلها الجماعات المتطرفة ولا الجماعات التنظيمية التي ترى في هذا تنازلاً منهم، وتلاحق أعضاؤها الفتياتِ غير المحجبات -والمحجباتِ معهن- بنظرات الازدراء التي تتوب بعدها الفتاة عن العودة لجلسة مماثلة توبة نصوح، وربما تدفعها انفعاليةٌ فرضتها عليها المرحلة العمرية لرفض الدين برمته.
وعلى ذكر المرحلة العمرية فهي عينها المرحلة التي تحتاج فيها الفتاة لسماع مثل هذه النصائح بالتحديد لا غيرها حتى ولو لم تعمل بشيء منها، فالتعرض لها في آنها يُغذي جذور الفطرة ويسهل استدعاؤها فيما بعد؛ ففي نظرتي القاصرة وكامرأةٍ لم يمضِ بي الزمن بعدُ كثيراً عن هذه السنّ لا تكتمل فطرةُ الفتاة الأنثوية ما لم تشعر بجسدها، لا أقول "غلو جسدها" لأني أرفض -إجمالاً- الحديث عن جسد المرأة كسلعةٍ تغلو وترخص، أقول "جسدها" قاصدة حقيقة جسدها، ففي شعورها بجسدها تمامٌ لأنوثتها واستسلامٌ لحياءٍ جُبلت عليه، منبعه الأصلي قلبُها قبل كل ما هو دونه.
ومتى ما تحقق هذا الشعور الأصيل في داخلها؛ أدَّت المرأةُ دورَها في حفظ اتِّزان المجتمع على أكمل وجهٍ وباتِّساق مع ذاتها أقوى.. ذلك الاتزان الذي لا يتحقق إلا بمعادلة واحدة واضحة، قسَّم الله فيها مسؤولية ضبط الاتِّزان على عنصريّ المجتمع؛ تعتدل المرأة في ملابسها وتصرفاتها ويغضُّ الرجل بصره ويضبط سريرته، فإن فرَّط أحدُهما في نصيبه من هذه المسئولية وراح يُزيِّف الحقائق ويُزيِّن المصطلحات مبرراً تهربه وتفريطه؛ فقد أفرط في ظلمِ نفسه وظلم الآخر وسلبِ حقوقه وضيع أمام إله هذا الكون موقفه.
أما عن السيدة "فدوى مواهب" وما يلاحقها اليوم من اتِّهامات وما يتم محاربتها به من أسلحة وضيعة كالصور قديمها وحديثها؛ فهي لم تتطرَّق من قريبٍ أو من بعيدٍ لأن سبب هذا الحكم في الإسلام انحرافُ الوالدين جنسياً، بل هي وجهة نظر خالصة ممن اتهموها بذلك لدوافع لديهم أسستها تراكيبُ نفسيةٌ وفكرية وحياتية معقدة تجعل تفسيرها صعباً..
ولكن متى كانت معرفة الأسباب شرطاً لتطبيق حكمٍ في هذا الدين ؟! وقد وُجدنا أصلاً على هذه الأرض لتطبيق الفريضة وتحقيق العبادة فتركناهما إلى منازعة الله ألوهيتَه.. ورغم هذا فظنِّي أن من وصل بالقراءة إلى هنا لا شك قد فهم السبب من الحكم الديني جيداً. مدافعة عن نفسها قالت فدوى مواهب إن موضوع المحاضرة كان أكثرَ شمولية، وهذا ما ظننتُه بالضبط ولولاه ما كتبتُ شيئاً من هذا كله، وقالت إن هذا الاجتزاء -الذي يُلهب العالم العربي منذ نزول أفراده إلى ساحة التواصل الاجتماعي دون مواهبَ أو أسلحة- اجتزاءٌ غير منصف ولا عادل.
وعن الصور فلن أتحدث عن القديم منها لأن في ذلك مجاراة مني لعديمي المروءة ومحبي خلط الأوراق وأنا -بكل وضوح- أنأى بنفسي عن هذا.. أما عن الجديد منها برفقة مطرب مشهور وبناتها غير المحجبات والشعارات السوقية المتداولة على الصورة؛ فأغلب المعلقين عليها بالسوء هم ذاتهم المؤمنون معي -وربما مع فدوى ذاتها- بقول جبران خليل جبران "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم"..
وهم أيضاً من سيُشيرون إليها بأسوأ مما أشاروا به إن هي ألزمت فتياتها بشيء لا يشعرون بعدُ أنهن مهيآت إليه، فلا تعطيها محاولةُ غرسِ شيء جيد في الناس جميعاً أو ريِّ غرسٍ صغير أيَّ حقٍ في إجبار بناتها على الحجاب ولا تمنحها كفالةً لتحقق ذلك. وإن كان أحدٌ قد شقَّ صدرها ورأى بأم عينيه "نيتَها" في استخدام الدين كوسيلة تسويقٍ لنفسها فأنا -صدقاً- بانتظار موعد يختاره بنفسه ويصحبني معه لأرى ما رأى وأتحدث مثله وأكثر بعد يقين. على الرغم من تنافي هذا الاتهام في جوهره مع الحرية والتعقل التي أبقت عليها في علاقتها مع بناتها. وإلى ذلك القارئ العزيز القابع خلف الشاشة والذي أقدره -حقيقة- من كل قلبي، ولم يقتنع بكل ما طرحته من بديهيات ..
"إن كنت بلا خطيئة فلترمها بحجر"! والخوف كل الخوف ليس ممن طرحوا الأفكار أو مَن استهجنتها مسامعهم أو مَن أخطأوا بحق بعضهم البعض أو حتى مَن نالوا من "فدوى مواهب"؛ الخوف كله ممَّن يخلق حالة اللغط ويجتزئ من المقاطع ما يثير البلبلة ويكثر فيه الخوض فتختلط على الناس الأوهام بالحقائق وتُروج بضاعتُه.
الخوف من أن تُطحن الشرذمة المتبقية بين شقيّ الرحى، بإسهابنا في محاربة الأفكار المتطرفة إلى أفكارٍ متطرفة مناهِضة، تستغِلُّ الدعمَ الخارجي المقدم إلى أفكارها استغلالاً مبتذلاً في إرهاب أصحاب العقول ذات الأفكار المغايرة.. وهو -بالمناسبة- أكثر ما يفضح خواء عقول هؤلاء إلى الحدِّ الذي نكاد معه أن نسمع صفيرَ الهواء فيها، ويكشف زيف أفكارهم التي لا تعرف سبيلاً للانتشار غير إثارة البلبلة، ويُبرز هشاشة الحقيقي منها، وهم بذلك يسيئون إلى أنفسهم أكثر مما يحاول غيرهم الإساءة إليهم. الخوف الحقيقي هو الخوف ألا يعرف هذا المجتمع حقيقة دينه، وألا يصل جيلٌ من هذه الأمة إلى اعتدال الإسلام وسماحته أبداً؛ فيسهُل على الريح تقاذفُه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.