شاهدت مؤخراً، حلقات الموسم الرابع لمسلسل (True Detective) بعنوان (Night Country)، من بطولة الممثلة القديرة والحائزة على جائزتي الأوسكار، جودي فوستر (Jodie Foster)، والتي تدور أحداثه في بلدة صغيرة نائية في ولاية ألاسكا الأمريكية، والتي يحل عليها الظلام المستمر سنوياً لمدة خمسة وستين يوماً، وهي مدة أحداث المسلسل الدرامية التي تدور حول جريمة قتل جماعية غامضة. أكثر ما لفت انتباهي في هذا المسلسل، الكلمات المقتبسة من قصة قصيرة للكاتب (Robert Chambers)، والتي تم عرضها في بداية الحلقة الأولى، وتقول: نحن لا نعلم شيئاً عن الوحوش التي يحلم بها الليل عندما تطول ساعاته، حتى الآلهة لا تستطيع إدراكها. هذه الكلمات ذكرتني بالحديث النبوي الذي يقول فيه سيدنا محمد: "لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في الوَحْدَةِ ما أعْلَمُ، ما سارَ راكِبٌ بلَيْلٍ وحْدَهُ".
عندما كانت تغيب الشمس ويحل الظلام على بلدتي الصغيرة في نهاية الستينات، كانت تنتابني مشاعر الوحدة والاكتئاب رغم صغر سني، ويحتار والديَّ ويعجزان أكثر الأوقات عن إيجاد ما ألتهي به لكي أتخطى تلك الأحاسيس. قرأت مرة، أن الإنسان ورث مخاوفه من الظلام منذ العصور الحجرية، بسبب عجزه عن الدفاع عن نفسه أمام هجمات الحيوانات المفترسة ما بعد الغروب. بالنسبة لي، كانت مشاعري تميل للاكتئاب أكثر من الخوف، ربما لأني كنت مأخوذة بالتكنولوجيا الجديدة آنذاك، والتي انتشرت في المدن الأردنية، والتي مكنتني من مشاهدة الصندوق العجيب الذي كانوا يسمونه أبناء عمتي التلفزيون، خلال زيارتنا الأسبوعية لمدينة الزرقاء، والتي انتشرت فيها الكهرباء قبل بلدتنا بعدة سنين. كنت أطالب والدي بشراء جهاز تلفزيون لكي يتسنى لي مشاهدة أفلام الكرتون كأبناء عمتي، ولكن والدي كان يجيبني ضاحكاً: لا فائدة من التلفزيون بدون الكهرباء، عندها كنت أزدري حالي وأهيم في دنيا الخيال وأنعم به بعد أن استحال عليَّ تحقيق آمالي العريضات.
ربطتُ الكلمات المقتبسة من مسلسلي التلفزيوني المفضل لهذا العام، بحالتي عندما تنتابني مشاعر الكراهية لذاتي، حالما أشعر بالعجز واليأس، ولا أحس به إلا عندما أشهد الفقر والقهر. بلغت عندي تلك المشاعر ذروتها، عندما تزامنت في شهر فبراير من هذا العام ، ذكرى إبادة نصف مليون شيشاني وشيشانية في أصقاع سيبيريا على يد الروس في منتصف القرن العشرين، مع الحرب الهمجية الإسرائيلية التي يتعرض لها الفلسطينيون الذين يرزحون تحت نير الاحتلال منذ ما يزيد عن الخمسين عاماً.
منذ حوالي خمسة قرون، تخَّطانا الغرب في جميع المجالات، وذلك بفضل ابتكارهم لما أسميها خوارزميات الحرب والظلام، والتي قامت بنقلهم الى مستويات متقدمة من التطور والازدهار على حساب الشعوب الأخرى، خاصةً في العالم الجنوبي. كان تبريرهم لاستغلال موارد البلاد التي لم تنجح بالانتقال من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية/العلمية، واستعمارهم واستعبادهم لهم لفتراتٍ طويلة، بأن التاريخ مليء بالأخطاء الكبيرة، ولَما كان التاريخ قد تشكّل لولا المبالغة في الآمال التي تجعلنا غالباً نحيد عن الصواب.
تساءلت مع نفسي: إلى متى ستطول ليالينا وقد كانت عَذاباً؟ (بالعين المفتوحة)، وتيقنت حينها، لماذا أحب مشاهدة سلسلة أفلام Lord of the Rings و The Hobbit. ربما، لأنه مراراً وتكراراً، عندما تنقطع السبل بفرق الخير من البشر والأقزام في هذه السلسلة من الأفلام، وتبلغ القلوب الحناجر، ويواجهون الهلاك المحتم على يد الأشرار، يأتيهم الغوث من جند الجان، وينتصرون على الفئة الطاغية من الوحوش والغيلان والمشعوذين. لكن، واحسرتاه، وعلى أرض الواقع، لا تتحقق سيناريوهات أفلامي المفضلة، بل غالباً ما يحدث العكس.
لا أدري لماذا أميل لمناصرة المستضعفين، مع يقيني بعبثية ذلك الأمر، ربما هو جزءٌ من الطبيعة البشرية. مع ذلك، ما زلت حائرة، أحاول بقدر ما تسمح به قدراتي المحدودة، إيجاد نهاية لمآسينا ومعاناتنا المستمرة منذ الأزل، من خلال ابتكار فكرة بسيطة لخوارزمية قادرة على انتشالنا من غياهب الظلم والظلام.
منذ الصغر، كانت مسألة الخلق تؤرقني، وتفتنني في الوقت نفسه، وكنت أمطر معلمتي ووالدي وعمتي، بأسئلتي المحرجة حول ذلك الموضوع المحظور ضمنياً. كانت إجاباتهم تشير إلى أن هناك بعضاً من أسرار الحياة لا يعلمها إلا الخالق ولا داعي للبشر التوغل فيها. لم أقتنع بتفسيراتهم، وليومنا هذا، أسعى لفهم لغز الخلق وغايته، ويُستثار فضولي لأتفه الأسباب، وأحاول إشباعه من خلال البحث والقراءة وربط المفاهيم مع بعضها البعض.
قبل عامين، شاهدت مقابلة مع الباحث والكاتب الرؤيوي، يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari)، الذي يستند في كتاباته إلى تحليل الإرادة الحرة والوعي والذكاء والسعادة والمعاناة لدى البشر. قرأت كتابه، Sapiens: A Brief History of Humankind، والذي يتحدث عن الإنسان الأول أو العاقل، ويستعرض تاريخ البشرية بدءاً من العصر الحجري وحتى القرن الحادي والعشرين في إطار تقاطع العلوم الطبيعية مع العلوم الاجتماعية. كما قرأت كتابه، Homo Deus: A Brief History of Tomorrow، والذي يستكشف فيه تأثير التطورات التكنولوجية الكبرى على المجتمع البشري، حيث يستخدم المؤرخ الأحداث التاريخية للتنبؤ بالأهداف الرئيسة للبشرية في الألفية القادمة. يتحدث كتابه الثاني عن المشاكل التاريخية الأزلية التي يواجهها العالم والتي تتلخص حسب اعتقاداته، بالمجاعات والأوبئة والحروب، ويتحكم بقواعد هذه الألعاب الدراماتيكية، العلماء والمصرفيين والمستثمرين وقادة الدول العظمى والمتطورة. يقول هراري بأن هذه النخب العالمية تخطط وتعمل دون كلل على تحقيق المستحيلات الثلاث، الخلود والسعادة والتفوق، من خلال تطوير خوارزميات خاصة بالهندسة البيولوجية، والهندسة السيبرانية، وهندسة الكائنات غير العضوية، لتُرَّقي ببعض البشر الى مخلوقات لا تقهر في المستقبل القريب.
يتدرج هراري في كتابه بالأحداث الهامة لتطور الإنسانية، بدءاً من الانفجار الكبير (Big Bang) قبل حوالي 13.8 مليار سنة، الى ولادة كوكب الأرض قبل حوالي 4.6 مليار سنة، ثم بداية عصر الجليد قبل حوالي 2.4 مليون سنة، وانتهائه قبل نحو 11500 سنة، يليه الفيضان العظيم، وانتشار الإنسان الأول على وجه الكرة الأرضية، حيث يشار إليه بجامع الكلأ/الصياد في عالم الأبحاث والاكتشافات.
يستعيد الباحث تتابع الثورات البشرية الكبرى التي أحدثت تغييرات جذرية في العالم، وبفضلها تسارعت عملية التطور. قبل سبعين ألف سنة، أحدثت الثورة الإدراكية (Cognitive Revolution) تغييراً جوهرياً في عقل الإنسان، محَّولةً البشر إلى حكّام العالم في نهايتها. كانت هذه الثورة متزامنة مع العصر الجليدي وانفجارٍ بركانيٍ عظيم كاد أن يقضي على الأحياء جميعًا، وأشار هراري بأن البشر والحيوانات كانوا على قدم المساواة خلال هذه الفترة الزمنية، مع أن الإنسان كان أكثر ذكاءً وقادراً على صنع الأدوات، وكانوا جميعا ًيرتبطون بالهدف الأسمى المشترك للحياة، ألا وهو، التكاثر من أجل البقاء.
قبل 12 ألف سنة بدأت الثورة الزراعية (Agricultural Revolution)، وذلك بإكتساب البشر مهارات زراعة مختلف المحاصيل بكميات كبيرة، وتمكنهم من هضم حليب المواشي التي استطاعوا تدجينها، مما أدى الى زيادة مطَّردة في تعداد البشر. بدأوا في التواصل والتعاون، وبناء التجمعات السكانية مثل القرى والبلدات الصغيرة. تحديداً قبل خمسة آلاف سنة، وخلال الثورة الزراعية، شهد البشر ابتكار الكتابة والنقود، ومنذ الألفية الأولى قبل الميلاد، بدأوا في الاندماج لتأسيس المدن والممالك. خلال هذه الفترة، بدأ البشر في إسكات الحيوانات والتحاور مع الآلهة، كما يقول هراري. فَسَّر أيضاً سر تفوق البشر خلال العشرين ألف سنة الماضية، بفضل اكتسابهم مهارات فريدة ساعدتهم في الهيمنة التدريجية على الحيوانات، وخاصة في المجالات التي تتعلق بالتواصل والتعاون والحركة، هذه القدرات سمحت لهم بالتفاعل والتعامل مع مجموعات كبيرة من الأشخاص الغرباء بمرونة.
بدأت الثورة الصناعية/العلمية في عام 1492، وقد أدت إلى تحول العالم إلى عرض للرجل الواحد (One Man Show). برأيي، يعبر هذا المصطلح بشكلٍ حرفي عن ما حدث فعليًا منذ بداية تلك الثورة، حيث أصبح العالم خلال الخمسة قرون الماضية مسرحًا لعروض فردية حصرية للرجال، وتم خلالها تهميش الآلهة والنساء والحيوانات. كان الإنسان، في العصور القديمة، يؤمن بأن حياته تحصل على معنى عبر التضحية بالسلطة والسيادة لصالح الآلهة، أما الثقافات الحديثة، وبعد الثورة الصناعية/العلمية، فتُنكر الاعتقاد بوجود خطة كونية عظيمة، وترفض التنازل عن سلطاتها مقابل اكتساب معانٍ للحياة. هذا التمرد تم تأجيجه من خلال التحالف الوثيق بين العلم والاقتصاد لضمان السلطة والسيادة في العالم.
تقول الدراسات، خلال ملايين السنين من التطور، لم يؤمن البشر بالنمو كغيرهم من المخلوقات، ولم يكتشفوا أن مشاكل المجاعات والأوبئة والحروب يمكن حلها فقط من خلال النمو. كان الاقتصاد يعاني وكان التقدم العلمي يراوح مكانه حتى العصر الحديث، حيث ازدادت ثقة الناس في المستقبل خلاله، ونتجت عن ذلك معجزة الائتمان، الذي يُعَدُّ التجسيد الاقتصادي للثقة. أي أنه إذا نجحت ما يكفي من المشاريع الجديدة، تزداد ثقة الناس في المستقبل، ويتوسع الائتمان، وتنخفض أسعار الفائدة، مما يُمكِّن رواد الأعمال من جمع الأموال بشكل أسهل ويُعزِّز نمو الاقتصاد. نتيجة لذلك، تتزايد ثقة الناس في المستقبل، ويستمر الاقتصاد في النمو، ويتقدم العلم معه. كانت النتيجة الإيجابية للرأسمالية هي المساهمة في تحقيق الانسجام العالمي، من خلال تحول النظرة إلى الاقتصاد من كونه لعبة ذات مجموع ثابت – ربحك يعني خسارتي (Zero-Sum)، إلى رؤية الوضع كفرصة للربح للطرفين (Win-Win).
بدأت الثورة الإنسانية (Humanist Revolution) في عام 1789، بنشر فكرتها الأساسية بأن الإنسان هو المصدر النهائي للمعنى، وبالتالي إرادتنا الحرة هي أعلى سلطة على الإطلاق. بدلاً من الانتظار لأن يخبرنا كيان خارجي ما الذي يجب فعله، يمكننا الاعتماد على مشاعرنا ورغباتنا الخاصة. تم اختصار فلسفتها في الشعارات التالية:
- الاخلاق: اذا كان الشيء يُحَّسن من مزاجك، فافعله.
- الجماليات: الجمال في عين من يراه.
- السياسة: الناخب يعرف ما هو الأفضل.
- الاقتصاد: الزبون/ العميل دائماً على حق.
- التعليم: فكر بنفسك.
لكن مثل أي مصدر آخر للسلطة، توجد عيوب في المشاعر. تفترض العقيدة الإنسانية أن لكل إنسان ذات داخلية أصيلة واحدة، ولكن عندما نحاول التركيز عليها، غالبًا ما نواجه إما الصمت أو فوضى من الأصوات المتنافسة. للتغلب على هذه المشكلة، أعلنت العقيدة الإنسانية ليس فقط عن مصدر جديد للسلطة، ولكن أيضًا عن طريقة جديدة للوصول إلى تلك السلطة واكتساب المعرفة الحقيقية.
خلال العصور الوسطى في أوروبا، كانت المعادلة الأساسية للمعرفة، المعرفة= الكتب المقدسة×المنطق، أي عندما يحتاج الإنسان لمعرفة جواب أي معضلة، كان يلجأ الى الكتب المقدسة ويستخدم منطقه لفهم المعنى الدقيق والحقيقي للنص. أما الثورة العلمية، فقد اقترحت معادلة مختلفة جدا، المعرفة= البيانات التجريبية× الرياضيات، اي انه اذا اردنا معرفة جواب سؤال معين، فإننا نحتاج لجمع البيانات التجريبية ذات العلاقة، واستخدام الأدوات الحسابية لتحليلها. غير أن العقيدة الانسانية عرضت بديلاً لكل ماسبق، بما أن البشر اكتسبوا ثقة في أنفسهم، ظهرت صيغة جديدة لاكتساب المعرفة الأخلاقية: المعرفة = التجارب × الحساسية. إذا أردنا معرفة الإجابة على أي سؤال أخلاقي، فإنه يتعين علينا أن نتصل بتجاربنا الداخلية ونراقبها بأقصى درجات الحساسية.
لكن، يزعم العلماء أنهم اكتشفوا في القرن العشرين أنه لا توجد روح، ولا إرادة حرة، ولا ذات، بل هناك فقط الجينات والهرمونات والخلايا العصبية، ويؤكدون أن أساس عملية تنفيذ المهام يتطلب الكثير من الذكاء الذي يستطيع التعرف على الأنماط، وقد تتفوق، قريباً، خوارزميات غير واعية (غير بشرية)، متجاوزةً توقعاتنا، على وعي الإنسان في التعرف على الأنماط. إذا قسمت الاكتشافات العلمية والتطورات التكنولوجية، البشر، إلى أكثرية من العاجزين والعاطلين عن العمل، وقلة من النخب البشرية المطورة والمتفوقة، فإن الليبرالية، ايدولوجية الثورة الانسانية المهيمنة حالياً، ستنهار. عندها، يتساءل هراري، ما هي الأيديولوجيات الجديدة التي ستملأ الفراغ الناتج، وأين سيكون توجه تطور أحفادنا- أشباه الآلهة؟
يسترسل هراري بأنه اعتبارًا من عام 2016، فإن أكثر الديانات الناشئة إثارة للاهتمام هي البياناتية، التي لا تبجل إلهًا ولا إنسانًا، بل تعبد البيانات. تعتبر عقيدة البياناتية أن الكون يتكون من تدفق البيانات، وأن قيمة أي ظاهرة أو كيان تحددها مساهمته في معالجة البيانات. يرى الخبراء المعاصرون أن الاقتصاد- آلية لجمع البيانات حول الرغبات والقدرات، وتحويل هذه البيانات إلى قرارات. انتصرت الرأسمالية في الحرب الباردة ولا زالت مهيمنة ليومنا هذا، لأن معالجة البيانات الموزعة تعمل بشكل أفضل من المعالجة المركزية، على الأقل في فترات التطور التكنولوجي المتسارع، ويرتكز ايمان الرأسماليين على اليد الخفية للسوق. مقابل ذلك، يرى البياناتيون الإنسان كنظام موحَّد لمعالجة البيانات، في هذا السياق، ما هي مخرجاته؟ ولا ننسى أن إيمانهم يتمحور حول اليد الخفية لتدفق البيانات. يقول البياناتيون إن مخرجاته ستكون إنشاء نظام جديد وأكثر كفاءة لمعالجة البيانات، يعرف بإسم "إنترنت كل الأشياء"، وبمجرد تحقيق هذه المهمة، يتوقع الخبراء اختفاء الانسان العاقل أي البشر أجمعين.
يوضح هراري، بأننا نسعى لتصميم -إنترنت كل الأشياء -على أمل أن يجعلنا أصحاء وسعداء وأقوياء. مع ذلك، بمجرد أن يتم تشغيل- إنترنت كل الأشياء، قد يتم تقليل دور البشر من مهندسين إلى رقائق، ثم إلى بيانات، وفي النهاية قد نذوب داخل مجرى البيانات مثل كتلة من التراب في نهر متدفق. بالتالي، تهدد البياناتية بأن تفعل للبشر ما فعله البشر لجميع المخلوقات الأخرى.
العالم يتغير بسرعة أكبر من أي وقت مضى، ونحن نُغمر بكميات ضخمة من البيانات و الوعود والتهديدات اللا مُنتهية. البشر يتنازلون عن سلطاتهم إلى السوق الحرة وإلى حكمة الجماهير والخوارزميات الخارجية، جزئيًا، لأننا لا نستطيع التعامل مع جَمَاح البيانات. كانت الرقابة، في الماضي، تعمل من خلال حجب تدفق المعلومات، أما في القرن الواحد والعشرين، فتعمل الرقابة عن طريق غمر الناس بمعلومات غير ذات صلة. نحن فقط لا نعرف ما الذي يجب أن نولي اهتمامنا له، وغالبًا ما نقضي وقتنا في التحقيق والمناقشة في القضايا الجانبية. كانت السلطة في العصور القديمة تعني الوصول إلى البيانات، أما اليوم، أن تملك السلطة يعني معرفة ماذا تتجاهل.
مع ذلك، إذا ألقينا الضوء على المشهد الأوسع للحياة، فإن جميع المشاكل والتطورات الأخرى تتلاشى أمام ثلاثة عمليات مترابطة: 1) العلم يتلاقى مع مبدأ شامل يقول إن الكائنات الحية هي خوارزميات والحياة هي معالجة للبيانات. 2) الذكاء يفك ارتباطه عن الوعي. 3) الخوارزميات غير واعية لكنها ذات ذكاءٍ عالٍ قد تعرفنا قريبًا بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا. هذه العمليات الثلاثة تطرح ثلاثة أسئلة رئيسة: 1) هل الكائنات حقًا مجرد خوارزميات، وهل الحياة حقًا مجرد معالجة للبيانات؟ 2) ما هو أكثر قيمة – الذكاء أم الوعي؟ 3) ماذا سيحدث للمجتمع والسياسة والحياة اليومية عندما تَعْرِفُنا الخوارزميات غير الواعية ذات الذكاء العالي بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا؟
بصراحة، أشعر بتوترٍ شديد ومستمر خوفاً من احتمال تفاقم وضع النساء والمهمشين في مجتمعاتنا البشرية جراء هذا التحول الخطير، وعن ما سيكون مصير البلايين من البشر العاجزين والعاطلين عن العمل في حال استبدالهم بالآلات، وخاصة عند قراءتي لتخوف هراري من المصير المحتوم للبشرية، حيث يعلن في خاتمة كتابه: لملايين السنين كنا قرود شمبانزي مُحَّسنة، في المستقبل، قد نصبح نملاً عملاقاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.