لم يعد بوسع أحد تجاهل الحالة الخاصة التي خلقتها حرب غزة في مساحات متعددة وعلى مستويات كثيرة نظرية وعملية، ليس فقط في جوارها أو الإقليم وحده، بل تمتد لتشمل العالم بأسره.
على الصعيد الثقافي، بدأ الأمر بإدانة أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول من قبل أسماء بارزة؛ مثل يورغن هابرماس في بيانه "مبادئ التضامن"، الذي برر بشاعات الاحتلال الإسرائيلي بحجة حقه في الدفاع عن نفسه، رغم أن هابرماس يعد وريثاً لنظرية مدرسة فرانكفورت النقدية التي كانت تتساءل عن الأسباب الثقافية لانحياز الجماهير الألمانية للقوى السلطوية، والتي أدت إلى صعود الحزب النازي عام 1932. في ذلك الوقت، اهتمت الجماهير بنوع من العقلانية الأداتية التي تركز على الأدوات دون الاهتمام بالغايات، مما أدى إلى تعطيل "العقلانية النقدية".
انطلقت فلسفة الوعي عند هابرماس، كمحاولة لخلق أفعال تواصلية تبحث عما هو مشترك بين الذوات وتمثل أرضية مشتركة. لكن نتساءل اليوم، بناءً على هذا الفهم لفيلسوف، أي وعي وأي فعل تواصلي هذا يمكن أن يبرر منهج الإبادة الإسرائيلي، الذي يراه هابرماس، "الذي يصفه البعض بأنه فيلسوف التعايش"، دفاعاً عن النفس!
الآن، وبعد 7 أشهر من الإبادة، تغير الوضع قليلاً، لم يعد الكثيرون حول هابرماس وتبريراته التواصلية، فالسردية الفلسطينية تملأ باحات الجامعات والشوارع والمهرجانات الفنية في الغرب، وأساتذة الجامعات ورؤساء أقسام الفلسفة يقيدون ويعتقلون أمام العالم دفاعاً عن مواقفهم التضامنية مع فلسطين. ويبرز في خلفية الاحتجاجات التي تجوب العالم، دور مثقف آخر، به روح أنطونيو غرامشي الفيلسوف والمناضل الإيطالي، وهو والأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد.
ما علاقة أنطونيو غرامشي بإدوارد سعيد؟
لقد كان أنطونيو غرامشي فيلسوفاً ومفكراً ومناضلاً وصحفياً وناقداً فنياً إيطالياً يسارياً، وعلى الرغم من قصر عمره، إلا أنه قدم إسهامات مبدعة تركزت على إشكالية المثقف والمجتمع. ويُعد الرجل أحد أهم رواد الفكر الماركسي في القرن العشرين، بل يعتبره البعض الباعث والمجدد الأبرز للفكر الماركسي في عصره؛ إذ جاء إبداعه الفكري من داخل الحركة الماركسية وموقعه فيها، حيث انضم إلى الحزب الشيوعي الإيطالي منذ تأسيسه وأصبح عضواً في أمانة الفرع الإيطالي من الأممية الاشتراكية.
بالنسبة لغرامشي، فإن فاعلية المثقف في مجتمعه تنتمي إلى "فلسفة البراكسيس" (النشاط العملي والنقدي/الممارسة الإنسانية والمحسوسة). يؤكد غرامشي على استقلالية هذه الممارسة عن الفلسفات الأخرى، حيث ترتبط بالممارسة والنظرية في آن واحد.
والحقيقة أنه منذ ماركس، كان هذا الخط هو المميز الأبرز للفلسفة الماركسية ومتبعيها. وفقاً لماركس، الفلسفات تتحدث عن العالم، لكن المهم هو تغييره. بما أن البراكسيس هي ممارسة ونظرية في آنٍ معاً، فإنها تعتبر فلسفة سياسية، فهي التاريخ الحي الذي يتشكل الآن، وتصور للعالم يمكن استخلاصه من الآثار الماركسية التي تتكون من ثلاثة أقسام: الاقتصاد السياسي، العلم السياسي، والفلسفة. يبحث البراكسيس في هذه الآثار عن المبادئ الموحدة في علاقات الإنسان بالمادة، عبر التاريخ الذي هو إنتاج ذاتي للإنسان.
فالمبدأ الموحد من وجهة النظر الاقتصادية هو القيمة، ومن وجهة النظر السياسية، الدولة. أما من وجهة النظر الفلسفية، فهو العلاقة بين إرادة الإنسان والأوضاع والمواقف التي ينبغي له تجاوزها. هذا المبدأ الأخير يؤلف بين وجهتي النظر السابقتين لأنه يتيح الانتقال من المستوى الاقتصادي إلى المستوى الخلقي والسياسي؛ إنه البراكسيس.
وبما أنه ليس ثمة انفصال بين الإنسان والأشياء التي ينتجها، فإنه يُعد ذاتاً ومادة اجتماعية وتاريخية مرتبطة بعلاقة جدلية مع الضرورة، وهذه النظرة تفسر نظرية غرامشي السياسية. فهو حين يفكر في الدولة، يبرهن أن المجتمع السياسي (أو الدولة) يتكون من أجهزة يغلب عليها القمع. فالدولة تتكون من قوى ساحقة مثل: الجيش والشرطة والقضاء، والتي تحل محلها في أوقات الأزمات منظمات خاصة كالميليشيات، وأجهزة أخرى أيضاً تصوغ التشريعات وتطبقها مثل: البيروقراطية، الحكومة، والبرلمان. هذه الأجهزة تؤمن بها طبقة ما سيطرتها على الطبقات الأخرى، كما تتكون الدولة من أجهزة تغلب عليها الأيديولوجية مثل المدرسة، الكنيسة، الأحزاب السياسية، والتي تؤمن أيضاً للطبقة المسيطرة رضا الطبقات الأخرى وقبولها بقيادتها.
غير أن ما يؤمن توحيد هذا كله هم "المثقفون" الذين تنميهم كل طبقة لتؤمن هيمنتها عبرهم. فمهمة المثقفين هي نشر تصور الطبقة للعالم وتأكيده في وجه مثقفي وتصورات طبقات النظام القديم أو النظام الذي يبدأ بالولادة. وبهذا، يشكل المثقفون الإسمنت العضوي الذي يربط البنية الاجتماعية التحتية بالبنية الفوقية ويتيح تكوين "كتلة تاريخية".
وهنا يكون الدور العملي للفلسفة يتجسد بالحزب الثوري، الذي يرفض الاندماج بالدولة، ويقدم الصراع الأيديولوجي على ما عداه، ويخوض البراكسيس في كل السياسة، محطماً بذلك الكتلة الأيديولوجية البرجوازية، مكوناً كتلة تاريخية جديدة في إطار صراع طويل ومعقد يسميه غرامشي "حرب خنادق". وهي حرب ينبغي أن تنمّى وتطور خلالها أشكال تنظيم ذاتي جماهيري، تكون بمثابة جنين لتدمير هيمنة الدولة ورفض فصل السياسي عن الاقتصادي، وبالتالي تنفيذاً لفلسفة جديدة.
علي اختلافات السياق بين الحراك الذي يتحدث عنه غرامشي، حيث يمثل المثقف الدينامو الذي يعمل على خلق واقع جديد بصورة تجعله عضوياً داخل إطار دولته، وسياق الاحتلال الذي يتعامل مع الآخر وكأنه عدم، حيث الصراع لا يأخذ شكلاً سياسياً أو اقتصادياً بل شكلاً وجودياً، إلا أنه يمكن الاستفادة من تحليله لفاعلية المثقف الذي عليه تكوين الكتلة التاريخية التي تسعى للتحرر.
ففي عام 2000، وبعد انسحاب قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني وفي غمرة الاحتفال بهذا الانتصار، اقترب كثير من اللبنانيين من السياج الحدودي لينظروا إلى الطرف الآخر، طرف الوحش الذي أذاقهم الويلات. كان من بينهم الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي، وفي غمرة هذا المشهد التراجيدي، التقط حصاة من الأرض -كما فعل الناس كلهم- وقذفها باتجاه السياج الحدودي. بدا "الفعل" وقتها بلا معنى، بينما قال جورج صليبا في مقاله "قبضة اليد: الأهمية المستمرة للاستشراق عند إدوارد سعيد": "لقد أراد أن يرى الأرض المحرمة ويشارك اللبنانيين فرحتهم عند الحدود، ويطرد ذلك الوحش الغاشم الذي عذّبه طيلة حياته"
ثار حينها نقاش كبير حول "دلالات الفعل" وحول ما إذا كان ما ألقاه سعيد حجراً أم حصاة (أكد سعيد نفسه في مقابلة أنها كانت مجرد حصاة). إلا أن الأمر -عندي- لا يخرج عن إطار فلسفة البراكسيس بالنسبة لغرامشي، حيث يقع في القلب منها المثقف الذي يقسمه غرامشي إلى (تقليدي "كلب حراسة للدولة"، وعضوي). المثقف العضوي هو الذي يعبر عن طبقته، وهو المنوط به الفعل السياسي وتشكيل وعي الجماهير.
وهكذا يمكن أن ننظر إلى إدوارد سعيد كمعبر عن طبقته، كمثقف فاعل يعرف تماماً ما يجب عليه. ورمية "الحصاة" جاءت في هذا السياق كفعل رمزي، أو اشتباك مثقف منغمس في الواقع؛ إذ كانت هذه "الحصاة" هدماً لفكرة التعالي الثقافي، وعضوية بالمعنى الغرامشي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.