على رقعة جغرافية محدودة يعيش فيها أكثر من 2 مليون إنسان محاصرين منذ ما يزيد عن 18 عاماً، في قطاع غزة، وفي ظل حرب هي الأشرس والأكثر إيلاماً، تسقط التساؤلات كما تسقط القذائف: هل ستتمكن العائلات من لمّ أغراضها والهرب قبل سقوط صاروخ على بيوتهم؟ لو استطاعوا، إلى أين سيلجأون؟ هل تكفي 88 مدرسة وبعض المساجد لإيواء مليوني شخص أصدر العالم الحكم بالموت عليهم؟ كيف يمكن لفلسطيني في غزة أن يتحرك خطوة نحو مساحة أخرى عندما يصبح كل سنتيمتر تحت قدمه هدفاً للاحتلال، بينما تتحول كل سيارة أو ناقلة لهدف لصاروخ موجه بعناية وتكنولوجيا فائقة، هكذا يعيش الغزي مع كل الأسئلة الكبيرة والصغيرة كل يوم، فكل خطوة وكل توقف ربما تؤجل أو تعجل بموته.
يُقدَّر عدد سكان مدينة غزة ومحافظة شمال القطاع بقرابة 2.3 مليون نسمة وفقاً للإحصائيات، وهو الأمر الذي ينعكس بالسلب على الظروف المعيشية والإنسانية المتدهورة أصلاً مع دخول الحرب شهرها الثامن على التوالي. ويشن الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حرباً مدمرة على قطاع غزة تسببت بسقوط مئات الآلاف من الضحايا معظمهم من الأطفال والنساء، ناهيك عن الدمار الهائل في المباني والبنى التحتية.
في بداية الحرب نزح عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى وسط القطاع وجنوبه خلال اليومين، بعد أن شن الاحتلال قصفاً عنيفاً، ورغم أن الاحتلال زعم أن المناطق من جنوب الوادي ستكون آمنة، فإنّه استهدف سيارات ومركبات النازحين، فاستشهد مئات الفلسطينيين وهم ينزحون بينما اعتُقل آخرون.
يعلم الاحتلال أن المنازل لن تسع الجميع، فلجاء النازحون إلى المستشفيات والمدارس التي تعرف بخدمتها الهشة، والتي ازدادت هشاشة بمنع جميع المساعدات من الوصول إلى غزة بهدف إبادة من لم تصبه الصواريخ بالتجويع والمرض، ورغم أن المستشفيات تشهد تكدساً كبيراً نتيجة نزوح الأهالي إليها، لم يتوانَ الاحتلال أن يقصفها ويخرجها هي والمحتمين بها، هذا بجانب قصف المنازل والأبراج السكنية يومياً، ما تسبب في إبادة 50 عائلة فلسطينية بشكلٍ كامل وحذفها من السجلات الحكومية الرسمية فقط خلال أول أسبوعين من الحرب.
أما عن من رفض النزوح، وبقى في الشمال ووسط غزة، رغم ضراوة الحرب الدامية والمدمرة والتشريد، ذاق الجوع الشديد مع رصاص جنود الاحتلال وصواريخ طائرته. لي صديق نزح بعد إصرار ورفض شديد من ترك بيته الذي حاصرة الركام من كل جانب، حكى لي قصة نزوحه إلى جنوب القطاع، قاطعاً المسافة بقدميه المنهكتين، بعد أن فقد من جسده أكثر من خمسة عشر كيلوغراماً. كانت الطرقات لا تُعبّد بالحصى بل بجثث وأشلاء ممن ضلوا الحياة في لحظة غدر. لم تكن مشقة السير وحدها ما استنزف روحه ولكن مشاهد الموت التي لازمته طوال الطريق، إذ يحكي لي أنه يذكر أن ربما داس تحت قدميه شيئاً طرياً ممدداً على الأرض، وبينما فوهات بنادق جنود الاحتلال تركز على كل خطوة يمشيها، فقرر أن يغمض عينيه حينها خشية أن يكون قد داس على جسد شهيد.
وفي كل خطوة يخطوها، كان يسمع دوي الرصاص ينطلق صارخاً في كل الاتجاهات -إلى السماء والأرض وفي قلب الزحام البشري- ما جعل جسده يهتز من الخوف مراراً وتكراراً. تلك الأصوات المرعبة التي تخترق الصمت المخيم على الأماكن، لا تترك للقلب محلاً للاستقرار، ولا للعقل مجالاً للهدوء. هنا شعرت لأول مرة فقط من انصاتي للكلام، كيف يمكن أن تنسلخ الروح عن جسدها، وتبقى الذكريات محفورة في الوجدان، لا تمحوها الأيام ولا تخفف من وطأتها الأيام، فما زالت رحلة نزوح صديقي التي لم تنتهِ بعد تلاحقني أنا هنا على الضفة الأخرى من بحر المتوسط.
قبل سفري عشت حروباً في غزة، لكني لم أعرف يوماً مرارة النزوح وكيف يغزو الذاكرة، أراقب اليوم كيف تلتهم الأيام بعضها في كل هذا الدمار والخراب. لطالما كان النزوح مجرد حكايات تُروى على مسامعي، حتى تحول إلى واقع مرير أراه ويعيشه شعبي، فشعرت كيف يغزو الذاكرة، ينسج من اللحظات ألماً دائماً وخوفاً لا يغيب.
أتساءل الآن: هل يصبح الهروب من الموت مميتاً في حد ذاته؟ كيف للخلاص أن يتحول إلى رحلة عذاب، حيث الروح تفر من موت محقق إلى موت آخر؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.