لطالما ارتبط النشاط والإبداع بالشباب، إذ يُعتقد أن الدماغ البشري يعيش ذروة ازدهاره حتى سن الثلاثين، في هذا العمر الفتي، تأتي الأفكار الجريئة، لذلك تستثمر أغلب الجامعات المرموقة بكثافة في طلابها، وتعتمد عليهم ليكونوا محركها الأساسي للبحث العلمي والتطوير. فبجانب خبرات الأساتذة الكبار ومعرفتهم، يكون الطلاب هم من يتحركون على الأرض، فنجد غالباً أن الجامعات تدفع طلبتها ليتفاعلوا مع الشركات ومؤسسات لحل مشكلات معقدة أو تطوير منتجات جديدة، ما ينعكس إيجاباً على قدراتهم الابتكارية وتثبيت النظريات العلمية.
هذه الطاقة الشبابية لا تُحدث ثورة في العلوم والمعارف فحسب، بل تمتد آثارها إلى المجالات الاجتماعية والسياسية. لطالما كان الطلاب، في قلب حقب تاريخية مفصلية وخصوصاً خلال القرن الماضي، رواداً في حركات التغيير، مدفوعين بضمير إنساني نقي وشجاعة لا تلين.
فما يقود الطلاب هو الضمير قبل أي عامل آخر؛ فهم في مرحلة عمرية لم يستقروا بعد على مبادئ فلسفية راسخة أو مواقف سياسية محددة. فبغض النظر عن الأيديولوجيات والحركات والأحزاب قد تتواجد في خلفية أو جانب حراكهم الطلابي، فإن هؤلاء الطلاب يكون لديهم رؤى خاصة تجاه القضايا الإنسانية العامة، بالاضافة إلى شعورهم الدائم بأن مستقبلهم مرتهن لنيات السياسيين وصانعي القرار، الذين قد لا يهتمون كفاية بمستقبلهم أو يأخذون بآرائهم في صناعة ذلك المستقبل.
هذا الإحساس بالإغفال يساهم في دفع الطلاب دائماً على الاستجابة لضمائرهم، ما يجعل مواقفهم أكثر تمسكاً بالمبادئ الأخلاقية. فيظهر في تصرفاتهم من خلال روح الشجاعة المتحفزة للعدل والصدق، مما يضفي على حراكهم طابعاً مثالياً ومؤثراً، مؤكداً على دورهم كقوة فاعلة في تحديد ملامح الغد.
مشاهد الاحتجاجات الطلابية التي تعم الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة تذكرنا بأدوار تاريخية؛ حيث كان الطلاب يلعبون دوراً فاعلاً في صياغة المشهد السياسي والاجتماعي والحقوقي. هذه الجامعات، بنشاطها الطلابي الملحوظ، تمثل نموذجاً بارزاً للتأثير الذي يمكن أن يحدثه الطلاب على القرارات الكبرى التي تتخذها الحكومات والأنظمة.
الحراك الطلابي ليس حديث العهد ولا محصوراً في الولايات المتحدة أو أوروبا؛ فعلى سبيل المثال، منذ العشرينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، شهدت مصر أيضاً لحظات تاريخية كبرى كان للطلاب فيها دور محوري وتأثير بالغ.
إذ يسلط الدكتور أحمد عبد الله رزة، الذي وصفه الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات بـ"الطالب المشاغب أبو كوفية حمرا"، الضوء في كتابه "الطلبة والسياسة في مصر" على دور الطلاب في المشهد السياسي والاجتماعي بمصر منذ العشرينيات وحتى منتصف الثمانينيات. هذا الكتاب، الذي بدأ كرسالة علمية أهّلت رزة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، يُعد مرجعاً هاماً يتناول التحولات الكبرى في تاريخ مصر، من خلال عدسة الحركة الطلابية.
يُبرز الكتاب الأدوار البارزة التي لعبها الطلاب في مختلف الأحداث المفصلية، بدءاً من الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى أحداث ما بعد وفاة الرئيس أنور السادات. يُعتبر العمل شهادة على الواقع الذي شكّل وأثر في تطور الحركة الطلابية بمصر، مقدماً تحليلاً عميقاً للتأثير الذي أحدثته هذه الحركة في المسار السياسي والاجتماعي للبلاد.
فقد لعب الطلاب دوراً حاسماً في ثورة عام 1919، خصوصاً بعد نفي زعيم "الوفد"، سعد زغلول. وكرد فعل لهذا الحدث، تجمع الطلاب بكثافة عند بيت الأمة، رافضين محاولات قيادات الوفد لتهدئتهم ومطالبين بعدم الانتظار أو التفاوض مع الاحتلال. بل كانوا مصممين على انتزاع حقوقهم بالقوة، وهتفوا "سعد سعد يحيا سعد" الذي أصبح رمزاً للثورة بعد ذلك.
وفقاً للدكتور عبد الله رزة، فعلى الرغم من تأثير الزعامات السياسية، استطاع الطلاب المحافظة على استقلاليتهم، وأسسوا لجاناً طلابية لتعزيز مناقشات حرة حول حقوق الوطن. واستطاع الطلاب حينها إنشاء إطار تنظيمي خاص بهم، مستقل عن الأحزاب السياسية، فطلاب المدارس والمعاهد في العاصمة المصرية لعبوا دوراً محورياً في قيادة الحركات الجماهيرية خلال ثورة 1919. من خلال تنظيم أنفسهم في لجان، استطاع هؤلاء الطلاب جمع توقيعات تفويض لسعد زغلول من مختلف طوائف الشعب، مظهرين بذلك قدرات تنظيمية استثنائية. هذه الجهود الطلابية كانت حاسمة في ربط المدينة بالريف وتوسيع نطاق الثورة.
وقدم الطلاب أول شهيد للثورة في القاهرة، الطالب ماهر حافظ أمين، الذي قُتل برصاص قوات الاحتلال البريطاني، تلت استشهاده سلسلة من المآسي؛ حيث سقط عشرات الطلاب شهداء برصاص الاحتلال، واعتُقل المئات في إطار محاولات لقمع الثورة آنذاك.
وعند عودة سعد باشا زغلول من المنفى، أنشأ الطلاب لجنة تنفيذية لتنظيم نشاطاتهم، مما أثار إعجاب زغلول ودفعه لوعد بترشيح طالب على قائمة الوفد في الانتخابات القادمة، وهو ما تحقق بانتخاب حسن ياسين، أول طالب يدخل البرلمان المصري.
لم تقف الحركة الطلابية في مصر بعد ذلك بل لعب دوراً محورياً في الحراك الوطني بعد ثورة 1919، حيث انخرط الطلاب بشكل كبير في السياسة. وكانت الانتفاضة الطلابية بعد الحرب العالمية الثانية، التي هدفت لإلغاء معاهدة 1938 والمطالبة بالجلاء البريطاني، واحدة من الأحداث البارزة في تاريخ الحركة الطلابية. وفي يوم 9 فبراير/شباط 1946، عُرف فيما بعد بيوم فتح كوبري عباس، حين خرج طلاب الثانوية في مسيرات حاشدة في القاهرة؛ لينضموا إلى زملائهم في الحرم الجامعي، ليتجهوا في طريقهم قاصدين عبور النيل مروراً بكوبري عباس. وبينما كان الطلاب يعبرون فتح البوليس الكوبري، مما تسبب سقوط بعض الطلاب في النيل غرقاً. وبعد أحداث كوبري عباس، التقى الملك بالطلاب وعبّر عن عدم رضاه عن تصرف الحكومة. في 15 فبراير/شباط، تم عزل النقراشي باشا وتعيين إسماعيل صدقي.
واستمر دور الطلاب في المشهد السياسي خلال العقود التالية، ودعمت الحركة الطلابية عبد الناصر الذي حقق الاستقلال. لكن بعد الهزيمة المذلة للجيش المصري في حرب عام 1967، استيقظت الحركة الطلابية مرة أخرى بانتفاضة في 21 فبراير/شباط عام 1968، عقب الغضب الشعبي من الأحكام المخففة ضد الضباط المتهمين بالإهمال في الهزيمة.
تحولت الاحتجاجات إلى مظاهرة كبرى انضم إليها الطلاب، وأجبرت هذه الانتفاضة جمال عبد الناصر على إعادة محاكمة الضباط وتشكيل وزارة جديدة. ولم يقف الطلاب بعد ذلك، فكانت انتفاضة الحركة الطلابية في عام 1971، التي رفضت حالة الـ"لا سلم" والـ"لا حرب" بين مصر وإسرائيل، دليلاً آخر على أهمية الطلبة في تشكيل الوعي السياسي في مصر.
ما نشهده اليوم من احتجاجات طلابية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة في الجامعات الأمريكية يذكرنا بالدور التاريخي العميق الذي يمكن أن يلعبه الطلاب في التأثير على المشهد السياسي والاجتماعي والحقوقي عالمياً. فهذه الحركات الطلابية تجعلنا نستذكر الماضي لنرى المستقبل، ونؤمن أن التحركات الطلابية القوية لها بصمات واضحة في القرارات الكبرى التي تتخذها الحكومات والأنظمة.
فالاحتجاجات الطلابية لديها القدرة على أن تجذب الأنظار وتستجلب التعاطف الشعبي الواسع، وقد رأينا مثالاً على ذلك في مصر خلال ثورة 1919 والانتفاضات الطلابية التي تلتها، وكذلك في فرنسا خلال موجة الاحتجاجات في 1968. هذه الحركات تبدأ عادة بين الطلاب، ولكن سرعان ما تجد صدى لها بين شرائح أخرى كالعمال والنقابات والفقراء؛ مما يؤدي إلى توسيع نطاقها وزيادة تأثيرها. إذ يتمتع الطلاب بخصوصية معينة عند الجماهير التي تثق في نواياهم وأهدافهم.
وفي لحظة العالم الراهنة المليئة بالقلق الوجودي، حيث تعتبر الحروب واحدة من أكبر مسببات هذا القلق، إلى جانب الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية والتحديات البيئية والفقر والجوع، ربما تصبح هذه الحركات أكثر أهميةً، ويمكن أن تكون نقطة انطلاق لتغييرات أكبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.