مرت 6 أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة، وعدّاد جرائم الاحتلال المؤلمة مستمر دون توقف. 34 ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال فضلاً عن 90 ألف جريح، والمجاعة تلوح في الأفق، وأصبحت تطرق كل بيت في قطاع غزة، رغم ذلك لا زالت الولايات المتحدة لا ترى ما يحدث من أعمال تشكل إبادة جماعية، وذلك بعد كل هذا القتل والدمار لا يزال التواطؤ الأمريكي يغطي ويحمي هذه الجرائم بل ويمدها بالسلاح حتى يستمر هذا القتل.
تدرك الولايات المتحدة تماماً أن ما يحدث في غزة اليوم قد تجاوز مرحلة الانتقام من حركة حماس ومن الشعب الفلسطيني، فممارسة أعمال الإبادة الجماعية وتسوية الأحياء، والمربعات السكنية بشكل كامل على الأرض على مدار أكثر من نصف عام، في تماثل مع جرائم النازية في الحرب العالمية الثانية، هذا الدمار والقتل والتوحش فاق جميع الحدود المعقولة، وهو ما يمكن تفسيره خارج الإنسانية في بشاعة الإجرام الذي يكشف عن طبيعة النظام الصهيوني الأكثر دموية في تاريخ الحروب، وهذه هي صورته الحقيقية، ولا يقتصر هذا التوحش على المستويين السياسي والعسكري بل يتجاوزه إلى المستوى الإعلامي حيث تمارس الصحافة والإعلام الإسرائيلي دور المنظر والمشجع لعمليات الإبادة الجماعية.
كل ذلك لم يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير مرة أخرى بالدعم غير المشروط لإسرائيل، بل دفعها إلى مواصلة هذا الدعم دون توقف، في استمرار العمليات الهجومية لقتل المدنيين ودفعها كذلك إلى ليّ ذراع مجلس الأمن، ومنعه من التوصل إلى قرار حقيقي يدعو إلى وقف إطلاق نار دائم يوقف هذه المذابح.
وعليه فقد باتت الصورة واضحة للغاية للعالم، ولا تحتاج إلى أي تفسير بأن الولايات المتحدة شريكة في الجرائم التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني وجميع ما يُقال عبر مسؤوليها عن حل للدولتين واحترام حقوق الإنسان، وغير ذلك ما هو إلا من قبيل المغالطات الإعلامية وبيع الوهم لمن هم ما زالوا في معترك التسوية والتطبيع، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لا تعترف بأي حليف لها من غير إسرائيل في المنطقة.
الغطاء السياسي الأمريكي هو الحصانة التي تغطي على جرائم إسرائيل، بل وتعاليها على الأمم المتحدة والقوانين الدولية، والإفلات من العقاب لجرائم الإبادة الإنسانية بحق المدنيين الفلسطينيين.
لا يزال النهج الإسرائيلي في التصفية العرقية تكرسه اليوم حكومة نتنياهو المتطرفة ودعواتها العلنية إلى التطهير العرقي لسكان قطاع غزة وإفراغه من السكان، وما نشاهده اليوم من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي غير المسبوق في الضفة الغربية المحتلة، والمصحوب بالاعتداءات المتصاعدة على السكان المدنيين، وتوزيع الأسلحة على المستوطنين وتحريضهم على استخدام العنف ضد الفلسطينيين، وفرض حصار خانق على قطاع غزة ومنع المساعدات الإنسانية، حيث ما يدخل من مساعدات لا يزال شحيحاً، ولا يفي باحتياجات السكان ومتطلباتهم الأساسية.
جرائم الاحتلال الإسرائيلي
العدوان الإسرائيلي على غزّة دخل شهره السادس، ورغم الفشل العسكري عن تحقيق أي تقدم على الأرض، بل بالعكس، فالعدو يتلقى هزائم ساحقة بقواته ومعداته نتيجة المقاومة الشرسة وصمود المقاتلين، الذي أسقط هيبة الجيش الذي لا يقهر، رغم تواضع سلاح المقاومة الذي يعتمد على الأسلحة المتوسطة والخفيفة، هذه المعادلات غيرت المعطيات على الأرض لصالح المقاومة.
فيما يهرب العدو عن منازلة الرجال وجهاً لوجه، إلى شن الغارات لقتل المدنيين، وهدم المساكن فوق رؤوسهم، والتجويع والتهجير القسري.
لا شك فإن حجم الموقف الأمريكي يمثل حجر عثرة أمام مسألة إسرائيل؛ إذ كان واضحاً تماماً منذ اللحظة الأولى أن بايدن وإدارته متماهون تماماً مع موقف حكومة نتنياهو، وأقدمت إدارة بايدن على حد ما يصفه الفلسطينيون بأنه "مشاركة فعّالة" في العدوان على قطاع غزة، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون نسمة. أُجبر أكثر من 1.7 مليون فلسطيني على النزوح من الشمال إلى الجنوب داخل القطاع، ومن تبقى وهم القلة يعانون أوضاعاً إنسانية توصف بالكارثية، فيما تواصل إسرائيل جرائم التطهير العرقي في شمال القطاع، بالتزامن مع تكثيف هجماتها على المنطقة الجنوبية في القطاع.
معاقبة إسرائيل
أثارت الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين مطالبات إقليمية ودولية بضرورة محاكمة قادة الاحتلال بتهم "الإبادة الجماعية" وارتكاب "جرائم حرب"، ويظل السؤال هنا قائماً: متى يحدث ذلك؟
فإمعان إسرائيل في ارتكاب المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وجّه الأنظار لكشف ما تنضوي عليه من مخالفات فادحة وواضحة للقانون الدولي، خاصة لجهة تصنيف أفعالها في إطار "الإبادة الجماعية"، وما يترتب على ذلك من محاسبة.
ووفق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، مما تشمله الإبادة الجماعية، في القتل العمدي، الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بهم، أو إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
ولم تعثر منظمة العفو الدولية على أي دليل على وجود أهداف عسكرية في المنطقة وقت الهجوم. وإذا هاجمت القوات الإسرائيلية المباني السكنية، علماً منها بوجود مدنيين فقط وقت الهجوم، فيكون ذلك هجوماً مباشراً على أعيان مدنية أو على مدنيين، وهو أمر محظور، ويشكل جريمة حرب. ولم تقدم إسرائيل أي تفسير بشأن المجازر التى ترتكبها مع أنّه يتعيّن على المعتدي إثبات شرعية سلوكه العسكري. ويُعتبر الهجوم عشوائياً أيضاً، حتى لو استهدفت القوات الإسرائيلية ما اعتبرته هدفاً عسكرياً مشروعاً، بمهاجمة مبنى سكني، في وقت كان مليئاً بالمدنيين، في قلب حي مدني مكتظ بالسكان، بطريقة تسببت في سقوط هذا العدد من الضحايا المدنيين وهذا الدمار الهائل، تُعتبر الهجمات العشوائية التي تقتل وتصيب المدنيين جرائم حرب.
انتهاكات جيش الاحتلال
تحقيقات كثيرة تنسف المزاعم الإسرائيلية بشأن اتباع قواعد الحرب تؤكد الوقائع ضلوع جيش الاحتلال بارتكاب جرائم إنسانية فضيعة، وهذا ما توثقه المنظمات الحقوقية والإنسانية، وبات واضحاً أن الدعاية الإسرائيلية لم تعد تجد آذاناً صاغية كما اعتادت.
وفيما يخص مزاعم إسرائيل بعدم استهداف المدنيين، أثبت القصف العشوائي الذي طال جميع أنحاء القطاع أنه لا توجد "مناطق أو ممرات آمنة" لهؤلاء المدنيين، بل إن جيش الاحتلال قصف مدنيين نزحوا باتجاه "مناطق آمنة" حددها لهم، بحسب تحقيقات أجرتها جهات غربية، وليست عربية أو فلسطينية.
فلا أحد يصدق ما يردده قادة الاحتلال من أكاذيب، ولا مكان آمناً في القطاع، والرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء.. ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون في مأمن.
بعض الفلسطينيين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه، فقد قتلتهم "ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل، شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية، على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت.
المحكمة الدولية
رغم الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية وقرار المحكمة باتخاذ تدابير تمنع الإبادة الجماعية تستمر الجرائم بشكل يومي في القطاع دون حسيب أو رقيب.
وفي الوقت نفسه الذي سارعت فيه المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و"نقلهم بصورة غير قانونية" من أوكرانيا، يبقى القادة الإسرائيليون، المسؤولون عن سنوات من جرائم الحرب بحق الفلسطينيين، بعيدين عن أي تحرك مماثل من المحكمة.
وقد انضمت فلسطين رسميّاً إلى المحكمة الدولية في عام 2015. وحتى قبل هذا التاريخ، قُدمت مئات الدعاوى القضائية لدى الجنائية الدولية ضد إسرائيل لارتكابها عدة جرائم بحق الشعب الفلسطينيين وأفراد وهيئات داعمة له، لكنها رُفضت جميعاً، لأسباب منها "عدم الاختصاص"، أو أن عدد الضحايا "لا يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة".
ويعد أحد أبرز العراقيل في وجه مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الدولية، هو رفض تل أبيب الانضمام إلى الجنائية الدولية، وعدم اعترافها بسُلطتها، وعدم اعترافها بالدولة الفلسطينية، ورفضها التعاون مع محققيها الجنائيين أو منحهم تأشيرات الدخول والسماح لهم بحرية التنقل والوصول إلى أماكن الجرائم، والحديث مع الضحايا والشهود.
ولم يُصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بياناً عاماً استباقياً يذكّر فيه إسرائيل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي وبولاية المحكمة بالتحقيق في أفعالها.
ختاماً، يدرك الشعب الفلسطيني بأنّ الولايات المتحدة شريكة رئيسة في الجريمة ضدهم، وهم لذلك لم ولن يستغربوا من أي جهود أمريكية لعرقلة المساعي لوقف إطلاق النار أو الحديث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وعلينا أن نفهم وندرك بأنه على الرغم من استخدام حق النقض الفيتو عدة مرات وعرقلة مشاريع وقف إطلاق النار إلا أن هذه الاجتماعات في مجلس الأمن أظهرت عزلة واشنطن وشريكة جرمها إسرائيل على المستوى الدولي وأظهرت انحطاطهما الأخلاقي أمام العالم.
ونتيجة لهذا التعنت الإسرائيلي جاءت عملية طوفان الأقصى التي لم تحدث من فراغ، وهي الحقيقة التي ليست محل جدال، ويقر بها حتى الإعلام الغربي الموالي تماماً لإسرائيل والمتبني لروايتها، لكن نتنياهو وحكومته الأكثر فاشية والأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل والتي تسعى إبادة الشعب الفلسطيني بشكل جماعي، أرادت منذ اللحظة الأولى أن تغطي فشلها الأمني والعسكري الذريع في ذلك اليوم من خلال رفع سقف أهدافها في العدوان على غزة بصورة وصفها مراقبون بأنها "خيالية"، وبعد دخول الشهر السادس من العدوان بدأ ذلك الوصف يتأكد على أرض الواقع، فلا الأسرى تم تحريرهم، ولا المقاومة رفعت الراية البيضاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.