عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) من أكثر الصحابة رواية للحديث، فروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعن أبيه وأبي بكر وعثمان، كان من المتقين الزاهدين، فزهد في الخلافة واعتزل الفتنة، مدحه كثير من الصحابة وأثنوا عليه. وعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) صاحب الورع والعلم، التقي في فتواه، المحدث العلامة، الصحابي النجيب، المجد المجاهد المجتهد، الزاهد في الإمرة والمراتب، العابد الداعية المتهجد، الإمام المتين، وافر النسك، كبير القدر، عظيم الحرمة، الراغب في القربة والمناقب، المستغفر التواب.
اسمه ونسبه وكنيته
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل من بني عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، بن مالك، بن النضر، ويجتمع هذا النسب مع نسب النبي ﷺ في كعب، واسم عبد الله مشهور ومتداول في الجاهلية ومن أفضل الأسماء، وأحبها إلى الله في الإسلام، لذلك كان (رضي الله عنه) محباً لهذا الاسم فخوراً به، حتى إنه كتبه على خاتمه.
مولده ونشأته وإسلامه
قال ابن حجر: كان مولد عبد الله بن عمر، في السنة الثانية من البعثة، لأنه ثبت أنه كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة، وكانت بدر بعد خمس عشرة سنة بعد البعثة، وولد (رضي الله عنه) في مكة وعاش في ربوعها طفولته الأولى، وعندما بدأ يحس ما حوله، ويعقل ما يرى، اعتنق مع أبيه عمر رضي الله عنهما الإسلام، وهو صغير لم يبلغ الحلم، وشارك أهله ما أصابهم من أذى المشركين، حتى أذن رسول الله ﷺ لأصحابه بالهجرة، فهاجر مع أبويه وعمره إحدى عشرة سنة، وفي دار الهجرة نشأ نشأة إسلامية خالصة، وتربى في أعظم مدرسة عرفتها الدنيا، وهي مدرسة رسول الله ﷺ، وأمضى عشر سنوات ميمونة، في صحبة الرسول المربي في المدينة، وآيات القرآن تتنزل على رسول الله ﷺ لإقامة بناء مجتمع إسلامي وتنظيم دولة الإسلام، ولقد شارك في نصرة الإسلام وحارب مع الرسول ﷺ حتى نقى الله الجزيرة العربية من الأنصاب والأوثان، قال ابن عمر: (قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب).
وقبل أن يتزوج، استفاد من أيام العزوبة فلازم المسجد يحفظ القرآن الكريم، وكلام الرسول ﷺ وأفعاله، وهو يبني النفوس ويصلح القلوب، وكان يحظى باهتمام رسول الله ﷺ واهتمام أبيه عمر (رضي الله عنه)، فتعلم من أبيه عمر خيراً كثيراً، وتعلم مع أبيه من رسول الله ﷺ الخير كله، ولقد أثبتت الأيام أنه كان جديراً بهذا الاهتمام، فقد أصبح بطلاً مجاهداً، وعابداً تقياً وعالماً ورعاً وداعياً بلغ مبلغ الرجال، وهو متمكن من إسلامه وإيمانه، وقد بقي هذا الرجل العظيم مثابراً على مبادئ نشأته، وأصول تربيته الأولى، وفياً للماضي الذي ترعرع فيه ونما، ترعاه رحمة رسول الله ﷺ وحنان الأب المحب العطوف، متيقظاً حذراً من تقلبات الأيام ومغريات الحياة، ونال (رضي الله عنه) شرف الهجرة والصحبة، وكان من أولئك الشباب الذي انتسبوا إلى مسجد رسول الله ﷺ في المدينة وهم في ربيع الشباب، فتوة ونضارة، وكان رسول الله ﷺ يرعى هذا الجيل من الشباب ويشجعهم ويعلمهم، ويخصهم بالنصائح والوصايا، وكان ابن عمر التلميذ النجيب الذي يرقب رسول الله ﷺ بحب وإعجاب، فيحفظ ما يرى من أفعاله وما يسمع من كلامه، ويسأل عما فاته إذا غاب، ويلازم المسجد فلا يكاد يفارقه، حتى قيل: كان ابن عمر من أحلاس المسجد، يأوي إليه ويسكنه، وقد تميزت صحبته بأنها صحبة ملاصقة ومخالطة لرسول الله ﷺ.
عبادته وورعه
وإذا كانت مهمة الإنسان الأولى في هذه الحياة هي عبادة الله تعالى، فإن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) كان يقوم بهذه المهمة، حتى آخر أيامه على أكمل وجه، يحرص على قيام الليل وصلاة الجماعة، ويسرد الصوم، ولا يفطر إلا في السفر، ويحج في كل عام، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكثر من الدعاء حتى عرفه الناس، العابد التقي المثابر الأواب، ولم يغتر بما حضره مع رسول الله من مشاهد، ولا بالمعارك والفتوحات، التي خاضها مجاهداً في سبيل الله، بل عرف بالمثابرة التي لا تعرف الكلل، وكان يعلم الناس متابعة العمل الصالح، وعدم الاتكال والغرور. وكان عبد الله بن عمر كأبيه، رقيق القلب سريع الدمعة، تهطل دموعه وهو يقرأ آيات القرآن الكريم أو يسمعها، وبكاؤه دليل الخوف والخشية من الله، والمعرفة الحقة لجلاله وعظمته، قال نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)، بكى حتى يغلبه البكاء. وكان ابن عمر مطبوعاً على الورع، وقد شهد بورعه الصحابة والتابعون، قال طاووس: ما رأيت أورع من ابن عمر.
عِلمه
عرف ابن عمر بالعلم والفقه، وطول ملازمة النبي ﷺ وحفظ القرآن الكريم، وفهم آياته وأحكامه، وعاش طويلاً فاحتاج الناس إلى علمه وفقهه، ويتحلى إلى جانب علمه النافع الغزي بالتواضع والورع والدقة، فلا يفتي إلا بما يعلم ولا يقول برأيه، ولا يزيد في حديث رسول الله آيَةْ ولا ينقص، ولا يجيب عما لم يقع، ولئن فاز غيره بالرياسة والملك، فقد فاز هو بمكانة العالم التقي الثقة، يتبادر الناس إلى سؤاله، ويتطلعون إلى أعماله، ويحفظون كلماته، لا خوفاً ولا طمعاً، وإنما محبة خالصة لله، وهي منزلة أرفع وأسلم في الدنيا والآخرة، وعند الله والناس، وكان ابن عمر يعرف محبة الناس له، ويتحدث عنها؛ قال مجاهد : كنت مع ابن عمر، فجعل الناس يسلمون عليه حتى انتهى الى دابته، فقال لي ابن عمر: يا مجاهد؛ إن الناس يحبونني حباً لو كنت أعطيهم الذهب والورق ما زدت.
حفظه للقرآن
فقد كان مسجد النبي ﷺ في المدينة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وكان يسمع له ضجة بتلاوة القرآن الكريم، وعبد الله بن عمر (رضي الله عنه) من طلاب هذه المدرسة الخالدة الملازمين لها ليلاً ونهاراً؛ إذ كان شاباً عزباً متفرغاً، من مشاغل الحياة وأعبائها، ويجد من أستاذه رسول الله ﷺ ومن أبيه عمر كل تشجيع ومساعدة، فحفظ القرآن وعرضه على النبي، ولم يكن حفظه للقرآن الكريم بقصد الدراسة والثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع، وإنما كان القصد والهدف تلقي أوامر القرآن، والعمل بها في خاصة شأنه وشأن الجماعة، وكان تعلمه بطيئاً، فقد روي أنه بقي أربع سنوات في تعلم سورة البقرة.
روايته للحديث
اكتمل نور الوحي في علم ابن عمر وفكره وقلبه، فأضاف إلى تعلمه لكتاب الله تعالى روايته لحديث رسول الله ﷺ، فروى عن النبي فأكثر، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي ذر ومعاذ بن جبل ورافع بن خديج، وأبي هريرة وعائشة، رضي الله عنهم أجمعين، وروى عنه: ابن عباس وجابر، والأغر المزني من الصحابة (رضي الله عنهم)، قال النووي: واعلم أن ابن عمر أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي ﷺ، فقد روي عنه (2630) حديثاً، أخرج له الشيخان (280) حديثاً، اتفقا على (168) حديثا منها، وانفرد البخاري بـ81 حديثاً، ومسلم بـ31 حديثاً، وأحاديثه في الكتب الستة والمسانيد وسائر السنن.
فقهه
احتاج المسلمون بعد وفاة الرسول ﷺ إلى فقه الصحابة الذين عرفوا بالعلم وملازمة النبي ﷺ وحفظ القرآن ورواية الحديث، ليفتوهم في وقائع حياتهم المستجدة وليبينوا لهم مبادئ الإسلام وعباداته، ولينقلوا لهم سنة النبي ﷺ، وعبدالله بن عمر كان شاباً متفرغاً للجهاد في سبيل الله وتحصيل العلم في صحبة النبي ﷺ، وبقيت هذه خطته وهو متفرغ تقريباً للعلم والعبادة، حتى احتاج الناس إلى علمه وفقهه في الدين، فأصبح يفتي في المدينة ويحدث عن رسول الله ﷺ، لكنه كان قليل الفتيا بالنسبة لغيره من الصحابة، والسبب أنه لا يقول برأيه، ويخشى أن يخالف أصحابه الذين سبقوه، ويخشى أن يجتهد في فتياه فيخطئ، يقول عقبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكان كثيراً ما يسأل فيقول، لا أدري، ثم يلتفت إلي فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم.
وفاته
توفي عبد الله بن عمر (رضيَ الله عنهما) في مكة المكرمة ودفن فيها سنة ثلاث وسبعين للهجرة، بعد الحجّ، وكان عمره أربعاً وثمانين عاماً (رحمه الله تعالى).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.