في تصعيد خطير للغاية ضد التحركات والاحتجاجات الطلابية داهمت شرطة مدينة نيويورك جامعة كولومبيا، واعتقلت العشرات من الطلاب الذين كانوا يحتجون تضامناً مع فلسطين. وقد أثارت هذه الخطوة المتسرعة وغير المحسوبة من جانب سلطات إنفاذ القانون انتقادات كبيرة، وخاصة من جانب الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات في جامعة كولومبيا، التي ألقت باللوم بشكل مباشر على العواقب المترتبة على هذه الاعتقالات على قادة الجامعات. هذه الحادثة ليست معزولة، ولكنها جزء من اتجاه أكبر وأكثر إثارة للقلق لوحظ في الجامعات الأمريكية حيث أصبحت المظاهرات ضد الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة متكررة بشكل متزايد، وأصبح القمع المنهجي لهذه التظاهرات مظهراً من مظاهر التعامل الأمني مع قضية لا تعتبر أمنية في المقام الأول.
هذه الاحتجاجات، التي عمت الآن العشرات من الجامعات في جميع أنحاء البلاد، يوحدها مطلب مشترك وهو: وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة وبدء المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية ضد إسرائيل. يوضح الإجراء الذي اتخذته الشرطة في جامعة كولومبيا بشكل صارخ تحولاً مثيراً للقلق في الولايات المتحدة التي كان يُشاد بها ذات يوم باعتبارها معقلاً لحرية التعبير والقيم الديمقراطية؛ حيث إنها تتجه اليوم نحو موقف أكثر قمعاً للاحتجاج السلمي والعصيان المدني. وفي قلب هذه الاحتجاجات يوجد الشباب الأمريكيون المتحمسون، والمنخرطون، والحازمون في معارضتهم للحرب. ومع ذلك، فإن جهودهم السلمية لا تُقابل بالحوار أو الخطاب، بل بالأصفاد والاعتقال.
إن هذه الحملة لا تهدد ركائز الحرية الديمقراطية فحسب، بل تشير أيضاً إلى أزمة أخلاقية عميقة داخل الأوساط الأكاديمية الأمريكية وخارجها، وهو ما يبرهن على أن الديمقراطية الأمريكية والغربية بشكل عام لم تكن يوماً حقيقة بل هي عبارة عن أوهام وأساطير.
الديمقراطية وحرية التعبير في دائرة الضوء
في الأسابيع الأخيرة، أدى تصعيد حرب الإبادة ضد المواطنين العُزل في غزة إلى إشعال موجة من الاحتجاجات الطلابية في جميع أنحاء العالم. ومن الإضرابات عن الطعام إلى المخيمات، يعبر الطلاب عن رفضهم لهذه الحرب ويطالبون مؤسساتهم التعليمية باتخاذ إجراءات مهمة في سبيل وقف تمويل الحرب أو المشاركة فيها. تسلط هذه الاحتجاجات، وخاصة تلك التي تحدث في الولايات المتحدة، الضوء على المناقشات النقدية حول دور الديمقراطية وحرية التعبير في الغرب.
غالباً ما تضع الولايات المتحدة، إلى جانب نظيراتها الغربية، نفسها على أنها معقل للديمقراطية وحرية التعبير. ومع ذلك، فإن الاستجابة الحالية لاحتجاجات الطلاب ترسم صورة مختلفة. وفي العديد من الجامعات الأمريكية المرموقة، لا يُقابل الطلاب الذين يطالبون بسحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية بحوار مفتوح، بل بالتهديدات بالاعتقال أو التعليق. ويتناقض رد الفعل هذا بشكل صارخ مع القيم المزعومة للحرية والمشاركة الديمقراطية، مما يشير إلى أن هذه المبادئ تطبق بشكل انتقائي، وتخضع للضغوط السياسية والمالية من قبل الدوائر السياسية الأمريكية واللوبيات الإسرائيلية الفاعلة في الولايات المتحدة. وبالتالي فإنّ الاحتجاجات تسلط الضوء على وهم الديمقراطية المثير للقلق، حيث لا تُسمع الأصوات إلا عندما تتماشى مع المصالح الجيوسياسية الأوسع لكل من إسرائيل والولايات المتحدة وتغيب هذه المفاهيم عندما يتعلق الأمر بقضية شعب عانى من الاحتلال لمدة 75 عاماً.
نداء بسيط: أوقفوا الحرب واسحبوا استثماراتكم
إنّ جوهر الاحتجاجات الطلابية هو مطلب بسيط، ولكنه عميق ومباشر وهو: وقف حرب الإبادة المستمرة في غزة وقطع العلاقات المالية مع إسرائيل من خلال وقف الاستثمارات الجامعية في الشركات الإسرائيلية التي تشارك في دعم وتمويل هذه الحرب. هذه الدعوة تتجاوز مجرد نداء من أجل السلام؛ إنها مطالبة المؤسسات بالارتقاء إلى مستوى المعايير الأخلاقية التي تروج لها. ويدعو الطلاب إلى سحب الاستثمارات من الكيانات التي تعمل على إدامة الصراع وتوسيع نطاق العنف والقتل والتشريد ضد الفلسطينيين في غزة. ولا يعد هذا الموقف موقفاً ضد التواطؤ المتصور في الظلم فحسب، بل يمثل أيضاً دعوة أوسع نطاقاً للاتساق الأخلاقي في كيفية إدارة الجامعات لاستثماراتها بعيداً عن المشاركة في عمل تنظر فيه محكمة العدل الدولية على أنه "جريمة إبادة جماعية" وتسعى محكمة الجنايات الدولية إلى إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وأعضاء كابينة الحرب الذي أمروا وشاركوا في تنفيذ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إن أحقية هذه الاحتجاجات جعلها صداها لا يقتصر على الولايات المتحدة؛ بل ألهم ربيع الجامعات الأمريكية حركات مماثلة في الجامعات في جميع أنحاء أستراليا وكندا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة. ويؤكد هذا التضامن العالمي الموقف الأخلاقي المشترك بين الشباب في جميع أنحاء العالم، ويسلط الضوء على الدفع الجماعي من أجل العدالة والسلام الذي يتجاوز الحدود الوطنية ويدعو إلى وقف القتل الجماعي بحق شعب أعزل. ويشهد انتشار هذه الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم على التأثير القوي للعمل الطلابي الموحد والرغبة العميقة في التغيير الذي يتجاوز الخطوط الثقافية والجغرافية.
مقدمة للحل
الجامعات في الولايات المتحدة هي أكثر من مجرد مؤسسات تعليمية؛ لأنها تعمل ككيانات مالية واقتصادية. بفضل الأوقاف الضخمة، تستثمر الجامعات في الولايات المتحدة في شركات أمريكية وإسرائيلية مختلفة بحيث تشارك هذه الشركات في تمويل وإمداد الجيش الإسرائيلي ومساعدته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في ارتكاب المجازر في غزة. وعندما تشمل هذه الاستثمارات الشركات العاملة في إسرائيل أو تلك المتورطة بشكل مباشر في الأنشطة العسكرية الإسرائيلية، مثل شركة لوكهيد مارتن أو كاتربيلر، تصبح العواقب الأخلاقية صارخة. الطلاب الذين يحتجون من أجل سحب الاستثمارات لا يتحدون القرارات المالية لجامعاتهم فحسب، بل يتساءلون أيضاً عن الآثار الأخلاقية لهذه الاستثمارات.
وفي حين رفضت بعض إدارات الجامعات، مثل جامعة كولومبيا بقيادة "نعمت مينوش شفيق"، علناً سحب الاستثمارات، فإن استمرار الاحتجاجات الطلابية يمثل إمكانية للتغيير. تعد هذه المظاهرات بمثابة تذكير حاسم بأن المؤسسات التعليمية، بغض النظر عن مكانتها، مسؤولة أمام مجتمعاتها. علاوة على ذلك، فإنها تسلط الضوء على الدور القوي لنشاط الشباب في تشكيل الخطاب العام والتأثير المحتمل على القرارات السياسية.
في الختام، فإن الاحتجاجات الطلابية المستمرة بشأن الحرب في غزة هي أكثر من مجرد دعوة لسحب الاستثمارات. إنها نقد عميق للسرد الغربي للديمقراطية وحرية التعبير، وتتحدى التناقضات والتطبيقات الانتقائية لهذه المُثُل. وبينما تستمر هذه المظاهرات في الإلهام ويتردد صداها عالميًا، فإنها لا تعكس تحولاً قوياً في مشاركة الشباب فحسب، بل تطرح أيضاً أسئلة جوهرية حول المسؤوليات الأخلاقية للمؤسسات الأكاديمية في الصراعات الجيوسياسية العالمية أو على مستوى وقف المشاركة والتواطؤ في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. ومن خلال نشاطهم المستمر، لا يقوم الطلاب بتشكيل سياسات جامعاتهم فحسب، بل يشاركون أيضاً بنشاط في المحادثة العالمية الأكبر حول السلام والعدالة والحوكمة الأخلاقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.