بعد متابعة حراك جامعة كولومبيا المناصر لغزة، والذي اتسع تدريجياً ليشمل كبريات الجامعات الأمريكية، وقد تمدد سريعاً ليعم جامعات غربية أخرى، فربما أكثر سؤال يتبادر إلى ذهننا العربي هو: أين طلبتنا واتحاداتهم؟ ولماذا خمد صوتهم وهم من كانوا في طليعة المدافعين عن القضية الفلسطينية على مدى عقود؟
الجامعة ليست جزيرة معزولة
الواقع أن حركاتنا الطلابية ليست جزراً معزولة عن مجتمعاتها، وقبل أن نتوجه إليها باللوم مطالبين إياها بجرد حساب عن حصيلتها الاحتجاجية نصرة لغزة، علينا أن نسأل أنفسنا: أين نحن؟ ذلك أن الاحتجاجات المحتشمة على المستوى العربي لم تقتصر على الطلاب وحدهم، فباستثناء اليمن وبعض الفعاليات المتفرقة في الأردن والمغرب فإن التصحر النضالي هو سيد الموقف، ليس على مستوى الأشكال الاحتجاجية فحسب، وإنما على مستوى المواقف أيضاً، حيث قمعت الأنظمة شعوبها وأبناءها، وأرضختها للمهادنة، فاقتصرت على التضامن العاطفي، وللمفارقة فإنه في زمن ليس ببعيد كان الحكام يتعرضون لمحاكمات جماهيرية ولموجات تندُّر واسعة النطاق، أما اليوم وبعد مشاركة بعض الأنظمة في إسناد عدوان الاحتلال فإن الصمت عن صنيعهم هو السمة الغالبة لبعض نخبنا.
صحيح أن احتجاجات الحركة الطلابية في الماضي مثلت ذروة الغضب العربي والإسلامي على الاحتلال الإسرائيلي، فاتصف مناضلوها بالمبادرة والإقدام والصلابة وقدر من الاستقلالية أنضجت ممارستهم، إلا أن محركها كان من خارج أسوارها، فهي في الغالب ذراع لتنظيم أو تيار سياسي لا يستطيع أن يمرر قناعاته "الثورية" في المجتمع إلا عبر الاتحادات الطلابية والنقابية، أما اليوم فطغيان النفس الإصلاحي بسبب طغيان الفلسفة المادية والاستهلاكية على التيارات السياسية والمجتمعية شكّل مكبحاً أمام أذرعها الطلابية لفرض أجندتها داخل الحرم الجامعي بعد أن افتقدت الدافع الذاتي المتمثل في مظلوميتها، والتي حفّزت في الماضي رموز العمل الطلابي على بذل أقصى الطاقات لتبليغها لعامة الجماهير الطلابية، والتي عُدت بمثابة مغناطيس جاذب لقطاعات منها باعتبار أن الدعوات الصادقة في كل زمان ومكان تجد دائماً من يتبناها، لكن أغلب الناس اعتبروا أن هذا الطريق شاق ولا فائدة مباشرة ترجى منه، بل إن منهم من قلل من أهمية العمل الطلابي ومن الجدوى منه، الشيء الذي أسفر عن خطاب هجين يحاول أن يبحث عن منطقة بينية بين العداء التقليدي للسلطة وبين موالاتها، وهو ما جعل الفئات الشابة تنصرف عنهم لنفورها من الالتواءات والتعقيدات والكلام الفضفاض.
شبابنا بخير.. لكن ماذا عن مخططات الأنظمة المستهدفة للطلبة؟
يسود انطباع بأن الأجيال الجديدة لا تستطيع أن تتحمل الأسقف السياسية العالية، لذلك فإننا كلما خففنا عليها انجذبت إلى الانتماءات الطلابية، وهكذا قيل عن الأفواج المتعاقبة على الجامعة لأكثر من 20 سنة، ونحن نتفق على أن النضج قلّ بسبب سياسات تمييع الشباب، لكن حين لا نقاوم الممارسات الممنهجة ضدهم عموماً والطلاب خصوصاً، ونتماهى مع الواقع المستجد، فإن الوضع الرديء يتفاقم ونصبح نحن أيضاً ضحيته، فنقضي على أية إمكانية مستقبلية لمقاومته، ويصبح هو العملة الرائجة وهو الحاصل الآن، والحل هو تركيز التيارات المجتمعية، إن كانت ما زالت مهتمة بالقطاع الطلابي، على مرحلة ما قبل الجامعية لبناء النواة الصلبة التي يمكنها أن تعيد التوهج والحيوية للجامعة، أما التعويل على فترة الجامعة المحدودة زمنياً، والمصممة لمحاصرة أي نشاط موازٍ لضغط المنهاج، من أجل تأطير الطلاب سياسياً ثم مطالبتهم بالمبادرة، فإن ذلك لا يعني إلا اجترار الفشل.
ومع ذلك أرى أن الحكم النهائي على الطلاب الجدد مجحف، فكما نشب "الربيع العربي" وقاده شباب اعتبرت تجربتهم الطلابية آنذاك تجربة مأزومة، فلن نستغرب إن عاد للحركة الطلابية عنفوانها شريطة أن يتوفر الاهتمام الحقيقي بهذه الفئة ودورها الطلائعي، ولنا في مدرجات ملاعب كرة القدم مثال، فبالنظر إلى قدرة شريحة من الشباب على مواجهة الخطر من خلال نشاطاتها في روابط الألتراس واحتكاكاتها الدائمة بالأجهزة السلطوية وما يترتب عليها من اعتقالات ومن استهداف لسلامتهم تنسف تلك الاتهامات الجاهزة بافتقاد هذا الجيل للجرأة، وعدم قدرته على تلقي الضربات القمعية.
وبالنسبة لمن يلقي باللائمة على الانقسام والتناحر بين الفصائل الطلابية فإنه يتحدث عن واقع تم تجاوزه لواقع أشد قتامة منه، فقد عملت الدولة على إذكاء الفتن بين مكونات المشهد الجامعي فيما مضى، وذلك لأنها كانت عاجزة عن منع إقبال الطلبة عليها والتفاعل مع عرضها، أما اليوم فالدولة تولي الأولوية لتزكية حالة اللامبالاة الحاصلة في صفوف الطلبة.
رياح الخارج.. داوِها بالتي كانت هي الداء
في ظل ميل أنظمتنا إلى التقليد وعجزها عن إخراجنا من أزماتنا، وفي ظل تبعيتنا المطلقة للآخر وسطوته علينا وعلى العالم؛ فإننا نتأثر ولا نؤثر، وعليه فقد كانت رياح الثورة القادمة من الخارج ملهمة لحركاتنا الطلابية التي تغنت كثيراً بانتفاضة طلبة فرنسا في عام 1968 وغيرها من الثورات العالمية، ما مدها بوقود أسهم في إشعال منطقتنا بالاحتجاجات، وجعل الطلاب طليعة التغيير في كل مجتمع.
في المقابل فإن سيادة النموذج الأمريكي الحالية وفرضه لقيمه الاستهلاكية قد أعطى الأولوية للركض نحو اللذة ولتبني الفردانية، وسفَّه بالمقابل النضال من أجل المبادئ أو من أجل الغير، وهو ما أثر في الدعوات التغييرية وأصاب النضال الطلابي بالفتور، فلم ينل منه شيء قدر ما نالت منه هذه الموجة، ففي أحلك الأوقات التي مرت به كان القمع يقويه ويزيد من تماسكه.
واليوم، نرى كيف شكلت الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت شرارتها من الجامعات الأمريكية صفعة في وجه النموذج الطاغي عالمياً من براغماتية نفعية، فأقامت الحجة على كل من يقلل من دور الطلاب التغييري، والذين كانوا يعرقلون طلابهم ويدفعونهم إلى الاقتصار على تسجيل الحضور، إذ نرى اليوم صدق المعلم لتلاميذه، فنراهم يعتقلون ويذوقون نفس القمع والاعتقال والتهديد بالتدمير المهني مع طلابهم.
رغم ارتفاع موجات التضامن العالمية وضمور الفعل العربي فلا يساورني شك في ولاء شعوبنا الأصيل لقضيتهم المركزية وفي تعلق شبابنا بها، وهو ما يعبرون عنه في كل مساحة حرية يسيطرون عليها كمدرجات الملاعب بشكل واضح، المشكلة تكمن في شل حركتهم وفي محاولات الأنظمة لبرمجة جزء منهم بشكل مسبق باسم الدولة والاقتصاد والمنطق، لكن جاء طوفان الأقصى اليوم ليعري كل مكامن الخلل في واقعنا العربي والإسلامي، ولا شك أن تداعيات انتفاضة الجامعات الغربية على جامعاتنا ما هي إلا مسألة وقت لا غير وسنكون مقبلين على تحولات عميقة في عموم مشهدنا السياسي في قادم الأيام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.