من حكمة الله تعالى في خلق البشر أنه جعلهم يحتاجون إلى سدِّ أفواههم، وملء أجوافهم، وتسكين جوعهم بالطعام، وهي الجبلة التي أدركها إبليس في خلق أبينا آدم – عليه السلام – كما جاء في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لمّا صَوَّرَ الله آدَمَ في الْجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شَاءَ الله أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ ما هو، فلما رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ)) رواه مسلم، ومن معانيه أنه لا يملك نفسه أمام شهوة الطعام، ومن هذه الجهة غزا إبليس آدم عليه السلام فأغواه وأخرجه من الجنة حين زين له الأكل من الشجرة المحرمة.
لأن الله تعالى حين خلق البشر وجعل الطعام قواماً لهم، وسبباً لاستمرار حياتهم؛ رزقهم أنواع المآكل ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ – أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا – ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا – فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ [عبس: 27] ونحن في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل، بل في أيامه الأخيرة.
واليوم ونحن نستعد لنودع رمضان الكريم، تصلني مناجاة عائلات وأرامل عبر بعض الأفاضل، في شكل فيديوهات وتسجيلات تبكينا من جهة وتفرحنا من جهة ثانية، تبكينا لأن الفقر حقيقة معيشة والأمراض أصابت كل الأعمار، وتفرحنا من جهة ثانية أن أمة محمد لا تزال بخير وتتبرع لغزة وأهل فلسطين، ولله الحمد في مد يد المساعدة رغم بعد المسافة الغربة الموحشة على البعض منا في فيافي أوروبا.
العلامة عبد القادر الجيلاني و أقصر خطبة جمعة "لقمة في بطن جائع":
هذا الإطعام وهذه الصدقات وما أجملها من قدر، في العشر الأواخر من رمضان! وما أبهاها من لحظات، لما يتناول الغزاوي وجبة كاملة لم يتناولها منذ أسابيع، على بساطتها! وما أروعها عندما ترتسم على الملامح الدهشة المصحوبة بالابتسامة! وكم جميل أن يسعد القلب لها فتشرق في الحياة شمس جديدة. تبعث الأمل من جديد للحياة، فذكرتني هذه المشاهد بتلك الخطبة العصماء المنسوبة
للشيخ عبد القادر الجيلاني منذ ألف عام تقريباً 953 سنة..
وهي أقصر خطبة في التاريخ الإسلامي كما يقال، والتي يقول فيها خاصة: " إذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع"، والخطبة ألقاها العلامة عبد القادر الجيلاني في المدرسة القادرية يوم من أيام الجمعة في بغداد خلال العهد العباسي الثاني:
فصعد المنبر وقال، باسم الله
لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع..
وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع..
وخير ممن قام لله راكع..
وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع..
وخير ممن صام الدهر والحر واقع..
وإذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع..
فيــــــا بُشرى لمن أطعم جائعاً….
قوموا لصلاتكم يرحمكم الله ..
والإمام عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ – 561 هـ) – (1077 – 1166)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، وُلد في بغداد، ويُعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب"سلطان الأولياء"، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه بـ "باز الله الأشهب" (باز هو الصقر- عربية وأمازيغية) و"تاج العارفين" و"محيي الدين" و"قطب بغداد". وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
في تلك الفترة، يحكى أنه، مرت سنوات قحط وفقر على بغداد وعلى العالم الاسلامي قبيل ولادة الشيخ عبد القادر الجيلاني وكذلك في العصر الذي عاش فيه. يقول ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: (وقع برد عظيم بالعراق.. ما رأينا مثله قط، حتى لقد جمد منه ماء دجلة أو كاد، وجمد الخل والنبيذ وأبوال الدواب والناس..).
الرصافي وقصة "لقيتها ليتني ما كنت ألقاها.."
لا نبرح العراق الجريح، الذي صار اليوم فقيراً تنهله تمزقات العروش والمذاهب بعد طفرة الأرباح منذ عقود وشعب العراق يعاني فقراً رغم وفرة البترول وخيرات دجلة والفرات، وهنا نذكر بأحد فحول الشعر وأقطابه، الذي يتفنن في وصف الفقر والجوع ونقص ذات اليد، ويألم لحال الناس عموماً.
والقصة معروفة للعام و الخاص، إلا أن قليلاً منا يعرف تفاصيلها، حيث كان الشاعر العراقي "معروف الرصافي " جالساً يوماً، في دكان صديقه الكائن أمام جامع الحيدر ببغداد.
وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، وإذا بامرأة يوحي منظرها العام بأنها فقيرة وكانت تحمل صحناً وطلبت بالإشارة من صاحبه أن يعطيها بضعة قروش كثمن لهذا الصحن، ولكن صاحب الدكان خرج إليها وحدثها همساً، فانصرفت المرأة الفقيرة، فاستفسر الرصافي من صديقه عن هذه المرأة.. فقال له صاحبه: إنها أرملة تعيل يتيمين، وهم الآن جياع وتريد أن ترهن الصحن بأربعة قروش كي تشتري لهما الخبز.
فما كان من الرصافي إلا أن يلحق بها ويعطيها اثني عشر قرشاً كان كل ما يملكه الرصافي في جيبه، فأخذت السيدة الأرملة الفلوس وهي في حالة تردد وحياء وسلمت الصحن للرصافي، وهي تقول: الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن.
فرفض الرصافي وغادرها عائداً الى دكان صديقه وقلبه يعتصر من الألم.
عاد الرصافي إلى بيته ولم يستطع النوم ليلتها وراح يكتب هذه القصيدة والدموع تنهمر من عينيه
"قصيدة الأرملة المرضعة "كتبت بدموع عيني الرصافي، فجاء التعبير عن المأساة تجسيداً صادقاً لدقة ورقة التعبير عن مشكلة اجتماعية "الفقر و الفقراء".. وكم من أرملة اليوم في عالمنا الإسلامي وكم من يتيم؟
وتُعد هذه القصيدة من روائع الشعر العربي في عصر النهضة، بل إن من روعتها نال درجة الدكتوراه بها طالب فرنسي في جامعة الزيتونة بتونس.
وترجمت قصيدته إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية لتعدد الصور الوصفية المؤثرة في نفوس النبلاء:
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها… تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثة والرجل حافية … والدمع تذرفه في الخد عيناها
بكت من الفقر فاحمرت مدامعها … وأصفرّ كالورس من جوع محياها
مات الذي كان يحميها ويسعدها … فالدهر من بعده بالفقر أشقاها
الموت أفجعها والفقر أوجعها … والهم أنحلها والغم أضناها
هذا حينما يكون للشعر هدف إنساني نبيل، أما في السير فحدث عن الإطعام ولا حرج، فقد ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الزبير بن بكار، ثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه قال: دخل أعرابي إلى دار العباس بن عبد المطلب رحمه الله، وفي جانبها عبد الله بن عباس يفتي لا يرجع في شيء يسأل عنه، وفي الجانب الآخر عبيد الله بن العباس يطعم كل من دخل، فقال الأعرابي: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بدار العباس بن عبد المطلب، هذا يفتي ويفقه الناس، وهذا يطعم الطعام.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ على من عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ" متفق عليه، وعن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، فكنت فيمن خرج فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: "أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"..
هذه بعض معان الإطعام، خاصة في حالات السلم أو الحرب، كما هو حال أهلنا في فلسطين.
رمضان وقت السلم غير رمضان وقت الحرب: همسة غزاوية
هذا في وقت السلم أما في وقت الحرب فالأمر غير ذلك، فهو أصعب بكثير، حيث يجد الجد، وفور الخطبة اقترب مني أحد الأشقاء من أرض الوغى من فلسطين، وقال لي هذه الحقائق، التي ذكرتها في خطبتيك، يعيشها أهلنا وأقربائي يومياً في غزة وهم صائمون بطريقتهم، وقرأ لي هذه القطوف التي وصلته لتوها من شقيقه عبر الهاتف، بعنوان: همسة غزاوية، يقول هذا الأخ من أهل غزة، وقد نزح ثلاث مرات داخل القطاع، "بالرغم من مرارة الحرب فإن هناك أشياء أدركناها ولم نكن قبل نعطيها الكثير من الاهتمام، ومنها:
1- تعلمنا كيف نتوضأ ونغتسل بكمية المياه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملها، 2- تعلمنا أحكام التيمم وطبقناها، 3- تعلمنا ألا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، 4- تعلمنا الأذكار والأدعية المأثورة في حالة الخوف والجزع والكرب، 5- تعلمنا أحكام قصر الصلاة في حالة الخوف وصلاة الخوف، 6- تعلمنا كيف نضع الحجر والحجرين على البطن ليذهب الجوع، 7- أدركنا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن وطنه مكة أنها أحب البلاد إلى قلبه، ولولا أنه اضطر للخروج منها ما خرج، 8- أدركنا لماذا المهاجرون نالوا هذه المكانة ولماذا الأنصار نالوا هذا الشرف، 9- أدركنا "نعمة" الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، 10- وأخيراً تعلمنا أن الله وحده المستعان وعليه التكلان!"، ثم اختتم كلامه متأسفاً، على حد قول الغزاوي المتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأيام قوله:"لقد كسرتنا الدنيا كسراً يليق بها، وخذلنا الناس خذلاناً يليق بهم، ولكن الله سيجبرنا جبراً يليق به". مبتهلاً بقوله: اللهم لنا إخوة في الإنفاق، خذلهم أهل النفاق والشقاق.. فاجعل يا رب على أيديهم نصراً يملأ الآفاق، وما علينا إلا الإنفاق والدعاء لمقسم الأرزاق ..اللهم آمين".
اللهم إنا نستودعك بيت المقدس وأهل القُدس وكل فلسطين، اللهم كن لهم عوناً، اللهم إنّا لا نملك إلا الإطعام والدعاء، فيارب لا ترد لنا دعاء، ولا تخيّب لنا رجاء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.