كان أجمل شباب مكة وأعطرهم فعذبته أمه عذاباً شديداً لإسلامه.. سفير الإسلام الأول مصعب بن عمير

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/30 الساعة 09:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/30 الساعة 09:12 بتوقيت غرينتش

هو الصحابي الشاب، فتى مكة الجميل، أول سفراء الإسلام، ومن السبّاقين إلى اعتناقه، من خيار الصحابة، ذو الحسب والنسب، المعلم السفير المهاجر، والبطل الشهيد، حاملُ لواء المسلمين يوم أحد، الذي ضحى بالترف والدلال ورغد العيش ولاقى من العذاب والتنكيل ما أثر في جسده، وذلك في سبيل هذا الدين العظيم، وهو ممن شهدوا بدراً، وكان حامل اللواء في غزوة أحد، وممن هاجروا الهجرتين، الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، أسلَمَ على يديه العشرات، وكان أوَّلَ سفير في الإسلام، وقد أثبتت مواقفه البطولية إخلاصَه وصدق نيته وإيمانه وحبه العظيم لله ورسوله، وتفانيه في الدعوة إلى الله، إنه الصحابي الجليل مصعب بن عمير، رضي الله عنه وأرضاه.

اسمه ونسبه وولادته ونشأته

هو مصعب بن عمير، بن هاشم، بن عبد مناف، بن عبد الدار قصي بن كلاب البعدري، القرشي، يكنى أبا عبد الله، وأبا محمد، وكان يلقب مصعب الخير، ولد بعد مولد النبي ﷺ بأربع عشرة سنة، أو أكثر قليلاً، أي عام 585م تقريباً، كان (رضي الله عنه) فتى مكة، شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه، وكان يلبس الحضرمي من النعال، وتكسوه أمه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة، يدهن بالعبير، ويذيل يمنة اليمن، وكان رقيق البشرة، حسن اللمة، ليس بالقصير، ولا بالطويل، منعماً مدللاً، يأكل أفضل الطعام، ذكره رسول الله ﷺ حين قال عنه: ( ما رأيت بمكة أحداً أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة، من مصعب بن عمير).

إسلامه

بلغ مصعباً أن رسول الله ﷺ يدعو إلى الإسلام، فانطلق إليه ودخل دار الأرقم، فسمع من رسول الله فصدقه، وأسلم وكتم إسلامه عن أهله، إذ كانت الدعوة إلى الله لا تزال في المرحلة السرية، وعافت نفسه ما كان عليه من نعيم فتركه واتجه بحواسه وجوارحه جميعها إلى ما آمن به، وكان يتسلل إلى رسول الله ﷺ سراً خوفاً من أمه وقومه، إلى أن رآه عثمان بن طلحة، أحد رجال بني عبد الدار، فأخبر أمه وقومه، غير أنه لم يبالِ بالسجن، وربما زاده ذلك تمسكاً بما آمن به، وعد ذلك الحبس خلوة يتأمل فيها ما سمع، ويحفظ ما تلقى، ويفكر بما هو عليه قومه من الجهالة والضلالة، وما هو عليه من الحق البين والنور الواضح، واستمر ذلك حتى كانت الهجرة إلى الحبشة وقد شهد الهجرتين.

ابتلاؤه

مرَّ مصعب رضي الله عنه بألوان من العذاب، كغيره من الصحابة، بل أشد؛ وذلك لفارق ما كان عليه في الجاهلية وما وقع عليه بعد إسلامه، فالأم التي كان لا يشغل بالها إلا ابنها، من فرط حبها له، أصبحت مِعولاً هداماً لذلك الجسم المنعّم، فلا تتردد في تعذيبه وحرمانه مما كان عليه سابقاً، بل كانت تعين قومه عليه، حتى أصابه من الشدة ما غَيَّر لونه، وأذهب لحمه، وأنهك جسمه، حتى كان رسول الله ﷺ ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف بالشمس حتى تسقط مغشياً عليها، وكان بنوها يحشون فاها بشجار، وهو عود، فيصبون فيه الحساء لئلا تموت.

ولذا تغيرت حياة مصعب بن عمير (رضي الله عنه) وتبدلت أحواله، في ملبسه ومأكله، وشأنه كله، فعن عروة بن الزبير عن أبيه (رضي الله عنهما) قال: كان رسول الله ﷺ جالساً بقُباء، ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَس القوم فجاء فسلم، فردوا عليه، فقال فيه النبي ﷺ خيراً وأثنى عليه، ثم قال: "لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله، ثم خرج من ذلك ابتغاءَ مرضاة الله ونصرة رسوله، أما أنه لا يأتي عليكم إلا كذا وكذا حتى يُفتح عليكم فارس والروم، فيغدو أحدكم في حلة ويروح في حلة، ويُغدى عليكم بقصعة ويُراح عليكم بقصعة". قالوا: يا رسول الله، نحن اليوم خير أو ذلك اليوم؟ قال: "بل أنتم اليوم خيرٌ منكم ذلك اليوم، أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها".

 وأما في حصار الشعب فقد بلغ الجهد منه رضي الله عنه مبلغه، فلم يعد يقدر على المشي مع ما أصاب جسده من ضعف، بعدما كان مرفهاً مدللاً، فقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان مصعب بن عمير أترف غلامٍ بمكة بين أبويه، فلما أصابه ما أصابنا لم يقوَ على ذلك، ولقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته يتقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القِسِيَّ ثم نحمله على عواتقنا.

 ومنه يتبيّن مدى الابتلاء الذي تعرض له مصعب بن عمير رضي الله عنه بعد إسلامه، ويتمثل في الأذى المادي، إذ قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها، لا سيما من قِبل أمه، حتى أصبح لا يجد ما يلبس، إلا فروة لا تكاد تواريه، والأذى الجسدي، فقد ذبل جسمه وتغيّر لونه وأصابه من الجوع ما لا يستطيع الوقوف معه، وكذلك الأذى النفسي، إذ كان يرى أمه وهي تنشر شعرها وتخرج، ويراها وهي تقف في الشمس نكاية به حتى يرجع عن دينه، ما يبيّن بجلاء نجاح التربية النبوية في غرس المبادئ والثبات عليها في نفوس الصحابة (رضي الله عنهم).

مصعب بن عمير أول سفيرٍ للإسلام والدعوة

رغم كل ما لقيه ذلك الفتى المدلل من قسوةٍ وتغير حال بعد إسلامه، لم يمنعه من التفقه في دينه والتعلم والفهم، وقد اختاره النبي ﷺ ليكون رسوله إلى المدينة، لرجاحة عقله وحكمته، وعلمه بالقرآن وأمور الدين، وشدة حفظه وفهمه له، وفطنته ولباقته، وتواضعه ورحابة صدره، ولسبقه في الإسلام، وكريم خلقه وصبره، وعفة نفسه، وقد جاءها وليس فيها سوى اثني عشر مسلماً، فراح يفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا عند العقبة، ويقرؤهم القرآن، ويدعو غيرهم إلى دين الله.

 وكان رضي الله عنه أول من قدم إلى المدينة معلماً، حتى أسلم كثيرٌ من أهل المدينة، ولم يبقَ بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه رجال ونساء مسلمون، وراح يتنقل من دار إلى دار، ومن ندوة إلى ندوة، فلا يكاد يمر يوم إلا ويسلم رجل أو رجلان، فممن أسلموا على يديه : أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وسعد ابن عبادة، وقد اجتهد (رضي الله عنه) في الدعوة إلى الله، فلم يغمض له جفن، ولم يهنأ بطعام، حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وكان رضي الله عنه أول من جمع بالمسلمين في المدينة وأول من صلى بهم الجمعة، فكان السفير الأول في الإسلام، والنواة الأولى لنشره، والدعوة إليه، فحاز شرف السبق، وكتب له عظيم الأجر.

عرف رضي الله عنه برجاحة العقل، وحسن الخلق، والبراعة في البيان، وكانت له قدرة فائقة على الحوار والإقناع، وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته ومعرفة دلالاته، واستيعاب معانيه ووعي أحكامه من المتفوقين، وعده بعض العلماء من كتبة القرآن المكي، وأُعجب أهل المدينة بخلقه الكريم، وقد نجح مصعب في مهمته، فاستجاب أهل المدينة لداعي الخير، بعد أن تلا عليهم ما كان معه من كتاب ربه، وهكذا قالوا عن مصعب بن عمير، بأنه فتح المدينة بالقرآن بلا قتال ولا سيف، وسمي عند أهلها المقرئ، ومضت الأيام حتى حان موعد هجرة الحبيب المصطفى، وإذا بأهل المدينة قد خرجوا يستقبلون رسول الله، وفي المدينة تولى مصعب بن عمير تحفيظ القرآن لمن أسلم فيها، وتعليم الناس أمور دينهم، فعقد فيها أولى الحلقات القرآنية، مع أسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنه لتدريس أحكامه، وكان أول من جمع الناس للجمعة بالمدينة.

جهاده واستشهاده

إلى جانب دوره في الدعوة وتمهيد الطريق لاستقرار المسلمين في المدينة، كان له حضوره في المعارك والغزوات، فشارك في غزوة بدر الكبرى، وكان يتعاقب مع سويبط بن حرملة، ومسعود بن ربيع، ركوب جمل له، وحمل لواء المهاجرين بغزوة بدر وأبلى بلاءً حسناً، أسهم في النصر المبين الذي أحرزه المسلمون على كفار قريش، وفي غزوة أحد كان مصعب بن عمير إلى جانب النبي ﷺ والصحابة في صد جحافل قريش، التي اجتمعت للعدوان على المسلمين في المدينة، والثأر من هزيمتها يوم بدر، وحمل مصعب اللواء مجالداً المشركين، وكان من الثلة التي ثبتت وقاتلت عن رسول الله ﷺ، بعد أن اضطربت صفوف المسلمين إثر نزول الرماة من على جبل أحد، وأظهرت وقائع استشهاده حاملاً اللواء مشاهد من البسالة والتضحية الاستثنائية، إذ هاجمه عمرو بن قميئة الليثي وقطع يمناه، فبادر مصعب إلى حمل اللواء بيده اليسرى، ثم حمل عليه من جديد فقطع يسراه، فتمسك مصعب باللواء بين عضديه، وفي الثالثة كرّ عليه ابن قميئة، وأنفذ فيه الرمح فوقع شهيداً (رضي الله عنه)، وكان مصعب بن عمير يردد عند استشهاده الآية الكريمة "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".

كان مصعب بن عمير رضي الله عنه من أفضل الرجال أخلاقاً، فقد تأدب بآداب الإسلام، وتخلق بأخلاق أهله، فكان الداعية المعلم، والصابر المجاهد، والمقاتل الشهيد، والسفير المثالي للدعوة الإسلامية، الذي آمن فصدق إيمانه، ووعى أبعاد دعوته، وفهم معنى إسلامه، وأدرك حقيقة منهجه، وترك الدنيا من أجل آخرته، هجر المال والطيبات، ورضي بالهجرة تلو الهجرة، والعذاب بعد الراحة، والجوع بعد الشبع، والفقر بعد الغنى، ليحظى برضوان الله ومغفرته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الصلابي
داعية ومؤرخ إسلامي
داعية ومؤرخ إسلامي متخصص في قضايا الفكر السياسي والتاريخ الإسلامي
تحميل المزيد