اعترف رئيس الوزراء المصري بوجود أزمة اقتصادية تثقل كاهل المواطنين، وهو أمر جيد! فقد سبق أن أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل عامين إلى أن ما نواجهه اليوم يشبه إلى حد كبير معاناة هزيمة 1967 (النكسة)، وما يثير دهشتي بالفعل هو أنه عزا الوضع الاقتصادي الصعب الذي نعيشه الآن إلى الثورة التي قام بها الشعب ضد النظام في يناير/كانون الثاني 2011. وبحسب رؤية الرئيس للتاريخ و للحاضر والمستقبل، فالشعب تغلب على الأزمة وتأثيرات الهزيمة (1967) عندما استرد كامل أراضي سيناء في عام 1982. لذلك نصحنا الرئيس بالصبر والتحمل لمدة 14 عاماً منذ 2011، مما يعني أن التحرر من الأزمة سيكون في عام 2025.
بالطبع، لا يرى الرئيس وأنصاره شناعة هذا التشابه، ولا يشعرون بثقل المسؤولية، إذ إن الهزيمة في عام 1967 والأزمة الاقتصادية الحالية هما نتاج النظام السياسي، بدون الحاجة إلى الكثير من التوضيح أو البرهان. فالمشكلة الحقيقية تكمن في احتكار السلطة للقرار في كلتا الحالتين، وتنصُّل النظام وتحلله من أي مسؤولية.
تبعت (النكسة) حرب الاستنزاف، وكذلك تلت الأزمة الاقتصادية استنزافاً أيضاً! لكن بشكل آخر، تمثل في بيع أصول الدولة المصرية من موانئ ومصانع وشركات عامة، وقد وصل الأمر حتى إلى بيع الأرض الوطنية، بدءاً من تيران وصنافير وصولاً إلى صفقة رأس الحكمة.
صفقة رأس الحكمة
لننظر ونتحدث بموضوعية، تبلغ مساحة مشروع رأس الحكمة 170 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة فريدة وكبيرة. الصفقة، في الواقع، ليست استثماراً أجنبياً خاصاً؛ نظراً لأن طرفي المعادلة هما الحكومة المصرية والصندوق السيادي الإماراتي (أبوظبي). كل الإجراءات من الاتفاق والتسعير والتحضير التشريعي والتقديم الإعلامي كانت ذات طابع حكومي سيادي. لكن تم تسويق ذلك، من خلال تسريب الأخبار في يناير، ثم تم الإعلان الإعلامي المكثف في وسائل الإعلام المملوكة للدولة في مصر، مع تقديم عروض لمشروعات عقارية تابعة للدولة على طول البلاد وعرضها. هذه الطريقة في العرض "معروفة ومستخدمة وإن لم تكن مستهلكة" بالكامل.
المشروعات السياحية التي تضمنت شراكات بين شركات عربية أو مصرية والتي تشتمل على ميناء يخوت ومطار ليست بالفكرة الجديدة. على سبيل المثال، الجونة بمساحتها البالغة 36 كيلومتراً مربعاً تحتوي على مطار خاص وعدة موانئ يخوت، وقد خُصصت لشركة سميح ساويرس (أوراسكوم للتنمية السياحية). مشروع سهل حشيش، الذي يماثل مساحة الجونة ويقع بجوار مطار الغردقة الدولي، بدأ بتمويل دولي وأعقب ذلك تخصيص لمستثمر مصري قبل أن يشهد تدخلاً من مجلس الشعب؛ مما أدى إلى دخول شركاء آخرين. مشروع بورت غالب، بمساحة 25 كيلومتراً مربعاً، يتضمن مطاراً دولياً وموانئ يخوت، وقد خُصص لمستثمر كويتي. وفي الساحل الشمالي، بيعت أرض شركة الفنادق المصرية "إيجوث" للمستثمر الإماراتي "إعمار" لتطوير مشروع مراسي بمساحة 6 كيلومترات مربعة والذي يشتمل على ميناء يخوت دولي (بجمارك وجوازات) قريب من مطار العلمين "المدني/ العسكري".
مع ذلك، عند النظر إلى الأرقام، فإن هذه المشروعات، سواء بمفردها أو مجتمعة، لا تستقطب 8 ملايين سائح، كما أن مطاراتها مجتمعة، بما في ذلك مطار الغردقة، لا تحقق 2 مليون مسافر سنوياً. يبدو أن موانئ اليخوت، التي يتم الترويج لها بشكل كبير في الإعلام، تواجه قيوداً أمنية وقانونية، بالإضافة إلى حملات إعلامية موجهة تحد من قدرتها على أداء دورها الاقتصادي بحرية. حتى إن القوات المسلحة قد أغلقت مداخل بحيرة مارينا العلمين منذ عام 2014، مما يحد من الوصول إلى البحر.
القصد من الاستعراض السابق أن قطاع السياحة واليخوت، حتى مع الأرقام المعلنة لمشروع رأس الحكمة، لا يقترب من تحقيق العائدات الضخمة التي تم وعد الجمهور بها، بل حتى إنه أوسع من الوعد بمئات المليارات من الدولارات التي وعدنا بها مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، عند بناء تفريعة قناة السويس في 2015 للعام 2030.
وجود شخصيات بارزة في القطاع العقاري، مثل هشام طلعت مصطفى، لا يعكس بالضرورة نشاطاً فعالاً من القطاع الخاص. شركة الإسكندرية للإنشاءات، التي ربما لها باع طويل في مجال البناء منذ 1994 مع مشاريع مثل الرحاب ومدينتي، لا تزال تشهد دوراً ملحوظاً للحكومة من خلال التسهيلات القانونية والتمويل بالشراكة. حتى إن الحكومة فرضت على البنك الأهلي المصري والبنك التجاري الدولي والبنك العربي الأفريقي وشركة بن لادن الانخراط كشركاء في بعض المشاريع. العقود التي تم منحها بدون مقدمات مالية واستيفاء حق الدولة عبر وحدات مبنية بنسبة 15% تمثل ميزة فريدة وغير مسبوقة، وهي لن تتكرر مستقبلاً.
لذلك، التقييم المبالغ فيه لشركات مثل طلعت مصطفى وعامر جروب في البورصة يمكن اعتباره بمثابة هدية من الدولة للمتعاونين معها. وعندما تقدم شركة مثل أوراسكوم للاتصالات على تنفيذ مشروعات بناء شبكات محمول في بلدان بأوضاع سياسية معقدة مثل سوريا وكوريا الشمالية، يُنظر إلى هذه المشروعات ليس كمبادرات قطاع خاص بحتة، بل كأعمال تحظى بدعم أو تعاون مباشر من أجهزة المخابرات.
الصفقة التي تُظهر إنقاذاً للاقتصاد المصري، بمنع استرداد ودائع بقيمة 11 مليار دولار من البنك المركزي، وتترك مبلغاً ضخماً آخر نقداً من الصفقة بقيمة 35 مليار دولار، مخصوماً منه الـ11 ملياراً، ليصبح الصافي 24 مليار دولار، يُعد مبلغاً كبيراً وذا أهمية. سعر الأرض بالمتر المربع في صفقة رأس الحكمة بـ9000 جنيه، استناداً إلى سعر الصرف الرسمي، وبنسبة 65% من ثمن الأرض للشريك الإماراتي. يُعد سعر متر الأرض معقولاً نسبياً، بحيث لا يُعتبر مبالغاً فيه لأرض صحراوية ولا رخيصاً لشراء بالجملة! في المقابل، تبيع الحكومة القطع الاستثمارية في العاصمة الجديدة بأكثر من 3000 جنيه للمتر (بالتقسيط).
بينما يرى بعض المتفائلين أن المبلغ الضخم الناتج عن الصفقات الأخيرة سيكون كفيلاً بإنقاذ مصر من شبح الإفلاس، مانحاً النظام والحكومة مساحة مالية لالتقاط الأنفاس لعدة سنوات، أجد نفسي مخالفاً لهذا التفاؤل. السبب في ذلك يعود إلى أن فاتورة الاستيراد – حتى بعد الجهود المتواصلة لكبحها – تقدر بنحو 80 مليار دولار سنوياً، بينما لا يتجاوز حجم التصدير الأقصى 50 مليار دولار. هذا يعني أن العجز التجاري يفوق الـ30 مليار دولار سنوياً. وعندما نضيف إلى هذه الصورة عبء خدمة الدين الذي يبلغ هذا العام 2024 حوالي 42 مليار دولار، مع تراجع عائدات السياحة وإيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج، يتضح حجم التحدي الاقتصادي الراهن.
إضافة إلى ذلك، سجل ميزان المعاملات الخارجية (السلع والخدمات) عجزاً بنحو 8 مليارات دولار في عام 2023، مما يعكس حجم الفجوة التمويلية بالعملة الصعبة التي تتجاوز 80 مليار دولار هذا العام، كل ذلك، رغم أن الدولة والحكومة قد أقدمتا – وبحق – على خوض معركة سعر الصرف بكل ما أوتيتا من أدوات، الأمن والإعلام والمخابرات والدبلوماسية الخارجية، لمواجهة هذا الوضع المالي البالغ الصعوبة.
من المهم أيضاً التذكير بأن مؤسسات التصنيف المالي العالمية قد خفضت تصنيف البنوك المصرية الرئيسية، وذلك نظراً لأن صافي الأصول الأجنبية المصرية بالسالب، وصولاً إلى عجز يقدر بـ(340.36 مليون دولار). هذه الأصول التي كان يفترض استخدامها من قبل الحكومة لاستيراد السلع الضرورية.
على المدى القصير جداً، من المتوقع أن يشهد سعر الجنيه تحسناً مقابل العملات الأجنبية، وقد يتبع ذلك انخفاض في أسعار الذهب. لكن، نحن ما زلنا في منتصف العام المالي الحكومي، والمشوار أمامنا لا يزال طويلاً. العجز التمويلي للحكومة في مشروع الموازنة يقارب 2.8 تريليون جنيه بالأسعار الرسمية، وهو ما يعادل ضعف إيرادات الحكومة المصرية. وتشديد سياسات التقشف الحكومية قد يؤدي إلى ركود اقتصادي شديد وارتفاع في معدلات البطالة، خاصة بعد فترة من التضخم القياسي التي دامت لأكثر من عامين.
كما شرحت سابقاً، الحدود الفاصلة بين القطاع العام والقطاع الخاص الفعلي أصبحت غير واضحة، مما يجعل التمييز بين ما هو حكومي وما هو خاص مجرد خداع بصري. وتعقد صفقة رأس الحكمة الأمور أكثر، حيث إن دلالاتها الاقتصادية والسياسية ملتبسة للغاية، ولا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للأحداث الجارية في غزة أو الترتيبات الإقليمية، بما في ذلك التناقضات بين مواقف القاهرة وأبوظبي في السودان وليبيا. أجد نفسي غارقاً في موقف ذهني يدعى Cynic أي فقدت قدرتي على التصديق.
كل ذلك ولم أذكر العاصمة الإدارية الجديدة، التي استنفذت أكثر من 60 مليار دولار وتم منح شركتها أكثر من 200 ألف فدان مجاناً، مع تنفيذها لأكثر من ثماني سنوات، تبقى الأسئلة حول عدد سكانها الفعليين اليوم وفي عام 2030 دون إجابة واضحة. ناهيك عن تكلفة المونوريل والقطار الخفيف والطرق وغيرها.
لدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، ذكر في مؤتمره "العظيم" أن شبكة القطار السريع والطرق ومحطة الضبعة النووية، التي كلفت 65 مليار دولار، كانت تحسب على أنها جزء من مدينة "رأس الحكمة" المخطط لها لأن تضم ثلاثة ملايين نسمة. وعلى الرغم من أهمية هذه التصريحات والمشاريع الضخمة، لكنني أفضل توجيه انتباهي وقتياً نحو إعادة مشاهدة "مسرحية مدرسة المشاغبين".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.