كم بقي من الوقت حتى تضع الحرب على غزة أوزارها؟ سؤال يتكرر طرحه منذ بدء العدوان البري على غزة، كثيرة كانت التوقعات التي تتحدث عن أسابيع قليلة، وآخرون قدروها بشهرين أو ثلاثة، قلة صغيرة جداً رأت أن المواجهة ستتجاوز تلك المقاييس الزمنية وكذلك الحدود الجغرافية، حالياً وبعد أن تخطت المواجهة يومها الـ164 ذهب محللون عسكريون وسياسيون إلى الحديث عن مدد أطول، بل حتى عن سنوات.
هناك ربما مؤشر يمكن اعتماده لتصور عقلاني لمسار هذه المواجهة غير المتكافئة من حيث القوة العسكرية والاقتصادية والبشرية، وهو حجم قدرة كل من الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية على الصمود وتحمل تراكم الخسائر البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، لكن يجب أن نأخذ أن هناك تبايناً في حسابات الانتصار أو الهزيمة بالنسبة للطرفين.
فالبعض يرى أنه لا يمكن للمقاومة الفلسطينية في المرحلة الحالية ربح المواجهة عسكرياً، وأن انتصار الاحتلال الإسرائيلي مؤكد رغم خسائره الكبيرة، وأن المقاومة قد تتمكن رغم ذلك من جني مكاسب سياسية تساعد مستقبلاً في تمهيد الطريق أمام فرص حل الدولتين وفي منع تطبيع علاقات تل أبيب مع مزيد من الأقطار العربية قبل إيجاد حل للقضية الفلسطينية.
طرف آخر يرى أن استنزاف قوات الاحتلال الإسرائيلي من جانب المقاومة مؤكد، وأن ذلك سيجبره على البحث عن حلول تحفظ ماء الوجه، كما حدث في مواجهات سابقة بين قوى عسكرية متفوقة وأطراف أضعف عسكرياً -فيتنام وأفغانستان مثالاً- حيث تمكنت الأطراف الأضعف مادياً من الانتصار في النهاية وفرض إرادتها، وقد قدمت من أجل ذلك تضحيات هائلة خاصة بشرياً.
استمرار المواجهة العسكرية مكلف اقتصادياً جداً للاحتلال، وكذلك مكلف اقتصادياً وسياساً أيضاً للولايات المتحدة في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية. لذلك، نرى التحذيرات الصادرة من طرف المسؤولين الاقتصاديين سواء في إسرائيل أو المراكز المالية الدولية تنذر من أن الاحتلال مهدد بالتحول إلى هزة اضطرابات اقتصادية عنيفة، فإذا تواصل الضرر الاقتصادي بهذا الشكل، سيجد الاحتلال نفسه يدفع مزيداً من المستوطنين إلى الهجرة إلى الخارج (الهجرة العكسية)، بالإضافة إلى ذلك لم تعد إسرائيل اليوم ساحة مغرية للاستثمارات الخارجية، وهو ما دفع الكثير من رؤوس الأموال للهرب.
حرب بلا سياسة
لقد كبدت الحرب الاحتلال الكثير من الخسائر الآنية، وخسائر مستقبلية، إذ سيجد الاحتلال نفسه في موقف صعب لتسويق ذاته من جديد كقوة أمنية وتكنولوجية جديدة في المنطقة. بالإضافة إلى سمعته الدولية التي تضررت ودُمرت أمام العالم، والتي سعى لسنين لتبيضها لتسويق نفسه ككيان طبيعي وليس استعمارياً.
وقد قالت وزارة المال الإسرائيلية في بداية الحرب إن كلفة العدوان على غزة فقط دون التحدث عن الجبهة اللبنانية تبلغ نحو مليار شيكل في اليوم الواحد، أي ما يعادل 267 مليون دولار تقريباً.
بينما يرى الخبير الاقتصادي ورجل الأعمال الإسرائيلي، رمزي حلبي، أن "التكلفة المباشرة للحرب تصل إلى مليار دولار أسبوعياً". وأضاف: "الاقتصاد (في إسرائيل) لا يسير في الاتجاه الصحيح (في زمن الحرب)، وهذا شيء مقلق"، معتبراً أن "كل المعطيات تقول إن الاقتصاد في خطر".
وفي حال استمرار الحرب لفترة طويلة، سيكون "الاقتصاد الإسرائيلي على حافة الهاوية، وهذا شيء خطير جداً"، حسب ما ذكر حلبي.
بينما في بداية سنة 2024 أفادت تقديرات وزارة المالية الإسرائيلية أن إسرائيل سجلت عجزاً في الميزانية قدره 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، بسبب ارتفاع الإنفاق الحربي في الربع الأخير من العام، وانخفاض الدخل الضريبي. وارتفع العجز المستهدف في موازنة 2024 إلى 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 2.25%.
وقدرت رويترز أن الحرب سوف تخفض النمو الاقتصادي لعام 2024 بنسبة 1.1 نقطة مئوية ليبلغ نحو 1.6%. وقالت إنّ الأثر المالي للحرب يقدّر بنحو 150 مليار شيكل (40 مليار دولار تقريباً) في 2023-2024، على افتراض انتهاء القتال العنيف خلال الربع الأول من العام الحالي.
إن إسرائيل، عبر استمرارها في حربها الهمجية على الفلسطينيين دون رؤية سياسية محددة أو أهداف قابلة للتحقيق، لا تكتفي بتحمل خسائر اقتصادية جسيمة فحسب، بل تدخل في مأزق سياسي ووجودي على المستوى الدولي؛ إذ تتعاظم هزائمها السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم، في ظل قطع سكة قطار التطبيع وتدهور سمعتها الدولية. فشعوب العالم بأسرها أصبحت شاهدة على إجرامها الاستعماري، وبدأت تعيد تقييم موقفها من إسرائيل، ما سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تصدع جدار الصمت، والقبول الدولي الذي كانت تتمتع به في السابق. إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الحرب وتعنته بعدم قبول الهزيمة، يهدد مستقبله ويضع علامة استفهام كبرى حول مستقبله السياسي والاقتصادي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.