يبدو أن إعلان "بايدن"، في خطابه عن حالة الاتحاد، لإنشاء ميناء على شاطئ غزة لإيصال المساعدات، دليل واضح على إحجام إدارته عن مواجهة إسرائيل بسبب عرقلتها تسليم مساعدات الإغاثة أو استخدام النفوذ الاستثنائي للولايات المتحدة، باعتبارها الداعم العسكري الرئيسي لإسرائيل، للتخفيف من وطأة أكبر قدر من ضرر العواقب الكارثية للحرب على غزة، أم هو تضليل للعالم عن دوره في هذه الحرب ومشاركته بها، حيث إن بإمكان الولايات المتحدة وحدها وقف حرب الإبادة والتجويع هذه، ووقف هذه المأساة التي يواجهها قطاع غزة، لكنها لا تريد.
حيث إن إنشاء رصيف مؤقت كما تعلن الإدارة الأمريكية قد يستغرق أسابيع لبنائه، كما أن عمليات الإنزال الجوي لا تشكل حلاً، فالحل الحقيقي هو وقف الحرب ورفع إسرائيل حصارها عن غزة، وإعادة فتح معابرها.
بلا شك فإن خطاب بايدن التضليلي، شكّل اعترافًا نادراً بحجم المعاناة الفلسطينية في غزة جراء العدوان العسكري الإسرائيلي، حين قال: "لقد تسببت هذه الحرب في خسائر فادحة في صفوف المدنيين الأبرياء مقارنة بجميع الحروب السابقة في غزة مجتمعة". وأضاف: "لقد قُتل أكثر من 30 ألف فلسطيني، معظمهم ليسوا من المقاومة"، متناسياً أن هؤلاء قتلوا بأسلحة أمريكية وبغطاء ودعم أمريكي سياسي واقتصادي وعسكري.
المشكلة ليست في المساعدات التي يتحدث عنها بايدن، وعن الأزمة في غزة، حيث يمكن أن تحل الأزمة من خلال زيادة المساعدات فقط، بل نحن بحاجة إلى وقف إطلاق النار، وإلى إنهاء المعاناة بشكل كامل.
فالممر البحري هذا لا يلبي الحاجة الأساسية لغزة، فالناس بحاجة إلى العيش بشكل طبيعي مثلهم مثل أي شعب آخر في العالم كله، فإنشاء ميناء في غزة لن يغير الواقع.
فكرة الرئيس الأمريكي جو بايدن إنشاء ميناء بحري في قطاع غزة تطرح تساؤلات كبيرة بشأن آليات تنفيذها والأهداف الحقيقية الكامنة وراءها، خصوصاً أنها تأتي وسط تفاقم معاناة السكان بسبب المجاعة، الناجمة عن الحصار المطبق على القطاع، والعدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من 155 يوماً.
غموض وتناقضات
إن هذا المقترح لا يزال غامضاً، ويثير الكثير من التساؤلات، ففي هذا الوقت بالذات يحتاج إلى الكثير من التفاصيل حول مهمات الميناء وإدارته وموقف الاحتلال الإسرائيلي منه، في حين أنه يحمل الكثير من التناقضات غير المفهومة ولا المبررة ولا المفسرة.
في الوقت ذاته فإن المقاومة طلبت سابقاً وخلال الحصار المستمر على غزة الذي استمر أكثر من 17 عاماً بتشييد ميناء بحري من وإلى قطاع غزة، حتى تتلافى المشكلات في المعابر، وإجراءات الاحتلال فيها، وكان هذا الطلب يرفض دائماً.
على الرغم من "الجانب الإنساني" لما أعلنه بايدن، فإن هناك جانباً آخر للميناء العائم يرتبط بتشجيع هجرة الفلسطينيين طوعاً إلى أوروبا، وإلغاء أي دور لمعبر رفح البري على الحدود مع مصر.
في المقابل، يرى مراقبون أن الدخول إلى وضع غزة عن طريق المساعدات الإنسانية والتخفيف عن السكان، هو برنامج متكامل ينتمي لرؤية أمريكية إسرائيلية، وتشترك بها أطراف عربية، وهي المرحلة الثانية بعد التجويع الشديد بفرض آلية برعاية أمريكية لمعالجة أزمة الجوع لتحييد دور حركة حماس في القطاع.
وبهذا الصدد فإنه إذا كان إدخال الغذاء على وجه الخصوص بشكل مكثف ومنظم، فسيكون هذا مدخلاً ليس سهلاً لتنفيذ مخططهم لإخراج حركة حماس تدريجياً من المعادلة.
وفي قضية الجوع أنت لا تستطيع منع الناس من الطعام، ولا تستطيع الوقوف في وجه إغاثتهم، لكن الحقيقة أن هذا الميناء أو الممر البحري ليس هو ما كان تطالب به حركة حماس لكسر الحصار عن قطاع غزة، وقد يشكل الميناء الأمريكي أداة أخرى لتشديد الحصار على الفلسطينيين.
فالولايات المتحدة لن تسمح بأي حضور للحركة ومؤسساتها في آلية الميناء، كونها أداة مباشرة لإحكام السيطرة على الناس عبر التجويع ثم الإطعام.
ليس حلاً للأزمة الإنسانية
ووفق التصريحات الأمريكية فإن الجسر البحري يحتاج إلى أسابيع حتى يعمل، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" أن عملية بناء الميناء العائم ستستغرق 60 يوماً، وسيشارك فيها على الأرجح أكثر من ألف جندي، ووفق تقديرات أوروبية فإنه يمكن أن ينقل ما يعادل 200 شاحنة فقط يومياً.
ويرى محللون أن الميناء بهذا الشكل لا يوفر نصف الحاجة اليومية للقطاع، ولا يشكل حلاً جذرياً للأزمة الإنسانية، في حين يكمن الحل في ممارسة الضغط الكافي على دولة الاحتلال لإدخال المساعدات براً بالقدر المناسب.
ومن ناحية أخرى فإن الولايات المتحدة تخشى من تداعيات تدهور الأوضاع الإنسانية في القطاع، لما لذلك من تأثير محتمل على مصالحها وقواتها في المنطقة وحول العالم.
فعلى المستوى الاستراتيجي كان ملف حقوق الإنسان أداة أساسية لعمل السياسة الخارجية الأمريكية، ومبرراً للتدخلات العسكرية والعقوبات الاقتصادية ضد العديد من دول العالم، وتخشى من أثر صمتها وتواطئها مع جرائم الاحتلال في غزة على فعالية هذه الأداة الاستراتيجية في سياستها مستقبلاً.
في المقابل فإن الحكومة الإسرائيلية لا تبدي التفهم الكافي لهذه الحاجة الأمريكية، وتركز بدلاً من ذلك على مساعي تهجير سكان شمال القطاع، والضغط التفاوضي على المقاومة باستخدام سلاح التجويع، ووضع العراقيل في وجه وصول المساعدات براً، بهدف تقويض وجود أي سلطة مدنية، وبالتالي تقويض مقومات الحياة والتماسك والصمود في القطاع.
وأمام هذه الحالة، لا تجد الإدارة الأمريكية بداً من التدخل المباشر حماية لمصالحها الآنية والاستراتيجية، وهي ترى أيضاً أن في ذلك مصلحة حقيقية لدولة الاحتلال، وإن كانت حكومة نتنياهو لا تقدرها حق قدرها.
وأتساءل هنا: هل يكفي الجسر البحري أو أن تُلقى المساعدات على غزة من الجو حتى تشعر الولايات المتحدة براحة الضمير؟ كيف يستقيم هذا بينما هذه القوة ذاتها تُسلح الاحتلال، وتعوضه بالذخيرة والعتاد؟! كيف يستقيم هذا بينما هذه القوة ذاتها هي من في يدها إيقاف الحرب بممارسة ضغط حقيقي على الاحتلال وقادته؟ وأكد أن الحقيقة الساطعة أن الاحتلال يستخدم التجويع، وما منع المساعدات وتعطيلها والمماطلة في إدخالها إلا لتركيع الشعب الفلسطيني في غزة وابتزاز المقاومة.
فكم هو عارٌ كبير على هذه القوى الكبرى في العالم أن ترى الأطفال يموتون جوعاً ولا تحرك ساكناً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.