غزة، المدينة التي تعانق البحر، حيث الأزقة تروي قصصاً عن العزيمة والصمود، باتت اليوم تنزف جراحاً تحت وطأة همجية الاحتلال. مدينة ذات يوم قريب كانت تحتضن أهلها وذكرياتهم بدفء، تحولت إلى ساحة لمعركة غير متكافئة، حيث المقاومة النبيلة أمام الاحتلال وبشاعة العالم أجمع.
منذ بدء الحرب بدأت الذكريات تتبعثر تحت أنقاض البيوت المدمرة، ويصعب على القلب ألا يغمره الحنين عند ذكر غزة التي نعرفها، فلكل ركن فيها قصة، ولكل موجة بحر همسة. كانت الشوارع تضج بضحكات الأطفال وأصوات الباعة، وكان البحر ملاذاً للعشاق والحالمين. المقاهي كانت تعج بالأصدقاء والعائلات، تتناقل الأخبار وتُشارك القصص، فيما ليل المدينة لا يهدأ. كل هذا شكَّل نسيج الذاكرة التي لطالما احتضنت أرواحنا، إذ كانت غزة كميناء آمن في عالم مضطرب.
لكن الصورة التي طُبعت في الذاكرة تكاد تكون محض خيال الآن. الشوارع التي كنا نمرح فيها، والبحر الذي كان مصدر إلهامنا، والمقاهي التي جمعتنا بأحبائنا، كلها تغيرت، أو بالأحرى، اختفت تحت ظلم الاحتلال الذي حول غزة إلى مدينة أشباح، حيث الأنقاض تخفي تحتها ليس فقط الحجارة بل أجساداً وقصص حياة كانت تنبض هناك.
الحقيقة التي يصعب على المرء استيعابها هي أن الاحتلال لم يدمر فقط البنية التحتية لغزة، بل دمر ذاكرة مليئة بالقصص، بالقصف الذي لا يميز بين مدني ومقاتل، بين طفل يلهو ومسعف يحاول إنقاذ حياة، وحوّل الحياة اليومية إلى سلسلة من المآسي. الصور التي تبثها شاشات التلفاز، حيث الدمار يعم المكان، والدخان يتصاعد من بين الأنقاض، لا تقدم سوى غيض من فيض الواقع المروع الذي يعيشه أهل غزة يومياً.
هذه الحرب لا تدمر المباني وحسب، بل تدمر أيضاً نسيج المجتمع والذاكرة الجماعية. كيف يمكن لطفل نشأ على صوت القصف أن يتذكر البحر كمكان للعب والفرح؟ كيف لعائلة فقدت منزلها، ذكرياتها، وربما أحد أفرادها، أن تجد مكانًا للأمل في قلبها؟
يا غزة..
لو كنت أعلم، يا غزة، أن الزمن سيخبئ لنا حرباً أخرى، لكنت احتضنتك أطول، لطويت شوارعك بذراعي أكثر. الحرب لا تقتل الأرواح التي ظلت متجذرة في ترابك فحسب، بل تنهش أيضاً في قلوبنا نحن، الذين غادروكي.
لكل من ترك غزة، لأي سبب كان، يبقى الحنين يشدّه إلى تلك الأرض، كشوق الطفل لأمه. يشدّني الحنين إلى بحرك الذي شهد أولى خطواتي، إلى شوارعك حيث رددت ضحكاتي الأولى، إلى مقاهيك التي كانت مسرحاً لقصصي أنا وأصدقائي.
يا غزة، الرغبة في العودة لا تتلاشى، بل تتعاظم مع كل صورة تعانق دموعي، حتى وإن شوهوا معالمك.
مازلت أحلم بيوم أعود فيه إلى غزة، لا كزائر يتأمل أطلال ماضٍ بعيد، بل كابن عائد إلى حضن أمه. أتوق للمشي على شاطئك، حيث الأمواج تغسل آثار الألم وترسم أملاً جديداً. مازلت أرسم حلماً ألعب فيه مع أولادي تحت شمسك، وفوق رمالك، مازلت أحلم بالسهر مع أصدقائي في مقاهيك، حيث ننسج من الحكايات جسوراً تصل بنا إلى يافا. أحلم برؤية غزة مجدداً كما اعتدتها، حرة ومليئة بالحياة والضحكات، متخطية الحرب والدمار.
يملؤني الشوق يا غزة، وأتذكر كلمات الشاعر محمود درويش، الذي نسج من الحروف وجع الغياب والأمل في اللقاء فقال: "متى نلتقي؟ أقول: بعد عام وحرب. تقول: متى تنتهي الحرب؟ أقول: حين نلتقي". هذه الكلمات تلخص مأساة انتظاري وأملي الدائم في لقاء يرمم ما أفسدته الحروب، في عناق يشفي غليل السنين.
لو كنت أعلم بما ستجلبه الأيام، لكنت قد غمرت كل شبر فيك بحب أعمق وأحكم. لكنت قد حفظت كل زاوية فيك بدقة أكبر، كي أستطيع أن أعيد رسمها في خيالي كلما اشتقت إليك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.