رجل مسلم عارٍ يقوده حشد من الهندوس المتطرفين في جنوب الهند. علم الميليشيا الهندوسية بلون الزعفران يرفرف فوق كنيسة في وسط البلاد. غوغاء تدمر أحياء المسلمين ومتاجرهم، وعصابات تعتدي عليهم في وضح النهار.
مشاهد من العنف الطائفي أطلت برؤوسها في مختلف أنحاء الهند، منذ يوم 22 يناير 2024. إنه اليوم الذي افتتح فيه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، المنتمي لحزب بهاراتيا جاناتا (الشعب الهندي) الهندوسي اليميني، معبد رام ماندير في مدينة أيوديا العتيقة.
تاريخ من الدماء
على مدار قرون عرفت الهند أزمات طائفية عنيفة بين أغلبيتها الهندوسية ومسلميها الذين يصعب وصفهم بالأقلية. سالت بحار من الدماء باسم الله وباسم ملايين الآلهة الأخرى المعبودة في الهند. كان واحد من أسوأ أزمات الهند الطائفية ما حدث في سنة 2002. في هذه السنة أُحرق قطار يحمل 12 ناشطاً هندوسياً قادمين من مدينة أيوديا بعد الإعلان عن خطة لبناء معبد للإله رام على أنقاض مسجد بابُري الأثري.
في مدينة أيوديا الصغيرة تغلي دماء الطائفية منذ القرن التاسع عشر، اختلافاً على أحقية قطعة أرض مساحتها 25 هكتاراً (موقع مسجد بابُري) هل هي مسجد أم مكان ولادة الإله رام ماندير، وتحتم قدسيتها بناء معبد لتكريمه؟!
عصابات من الهندوس سفكت دماء مئات من المسلمين في أحداث الشغب التي انطلقت من ولاية غوجارات الهندية في عام 2002. كانت واحدة من أخطر موجات العنف التي عاشتها الهند في العقود الأخيرة، حتى أن رئيس وزراء البلاد أتال بيهاري فاجبايي قرر وقتها إرسال الجيش إلى الولاية الصغيرة لكبت العنف وإطفاء نار الفتنة، قبل أن تتسرب إلى مدن أكبر، مثل دلهي وبومباي وحيدر أباد، حيث يقطن ملايين من المسلمين. في ذلك الوقت كان حاكم ولاية غوجارات هو ناريندرا مودي.
كان إرسال الجيش خطوة ضرورية، لأن أشباح حادثة أخرى منذ عشر سنوات وبالتحديد سنة 1992، كانت تلوح في الأفق. أشباح مخيفة انطلقت من مدينة أيوديا الصغيرة، واكتسح عنفها كل أرض شبه القارة الهندية. آلاف من الأرواح راحت ضحية هذا العنف بعد هدم الحشود الهندوسية المسجد البابُري في تلك السنة، وتركته أطلالاً تسكنها نُذر شؤم قائمة.
ومنذ يناير 2024، تشهد الهند مرةً أخرى مناوشات بين الهندوس والمسلمين، وأحداث عنف تقودها عصابات هندوسية. ومرةً أخرى تنطلق أحداث العنف من مدينة أيوديا، حيث افتتح رئيس وزراء البلاد ناريندرا مودي معبد رام ماندير.
المعبد الذي بُني على أنقاض المسجد البابُري
حدث جلل، وشديد الخطورة وينذر بكارثة طائفية قادمة في الهند، فما الذي يدفع رئيس وزراء بلد تقف على شفا حفرة من نار الفتنة، لخطوة على هذا القدر من الرعونة؟ ولمن ترجع أحقية قطعة الأرض التي سالت من أجلها الدماء؟ أهي مسجد للمسلمين أم معبد للهندوس؟
مسجد ومعبد وبقرة وكثير من الدماء
لنفهم ما يحدث لا بد أن نعود بالتاريخ إلى القرن السادس عشر؛ حينها بنى الإمبراطور المغولي المسلم ظهير الدين محمد بابُر، مسجداً على هضبة راماكو المقدسة عند الهندوس. وتقع تلك الهضبة في مدينة أيوديا بولاية أوتار براديش شمالي الهند. تمضي القرون حتى نصل إلى القرن التاسع عشر خلال الاحتلال البريطاني للهند، ويبدأ الخلاف والعنف بين المسلمين والهندوس، حول هذا الموقع المثير للجدل.
بداية هذا الخلاف كانت سنة 1853م، حين أعلنت بعض الطوائف الهندوسية عن قناعتها أن المسجد بُني على أنقاض معبد للإله راما، وفي موقع ولادته منذ سبعة آلاف سنة، وأن الإمبراطور المسلم هدمه لبناء مسجده. وقعت بالفعل مناوشات بين المسلمين والهندوس في ذلك العام، انتهت بمقتل 70 شخصاً.
زادت الأزمة في سنة 1854 وتجددت المناوشات الطائفية التي انتهت بمقتل 700 شخص. وفي سنة 1859 قررت إدارة الاحتلال الإنجليزي تقسيم موقع المسجد إلى قسمين، يفصل بينهما سياج حديدي. يسمح للمسلمين بالصلاة في داخل المسجد، بينما يمارس الهندوس طقوسهم في الفناء الخارجي.
بعد حوالي ثمانين عاماً من الهدوء تجددت المواجهات الطائفية مرة أخرى سنة 1934 على خلفية مقتل بقرة، وتعرض المسجد الأثري لبعض الأضرار. وفي سنة 1949، وبعد سنتين من استقلال الهند، اقتحم الهندوس المسجد ووضعوا تماثيل رام على منبر المسجد ومحرابه، وادعوا أنها ظهرت هناك بمعجزة.
أصدرت محاكم اتحادية وقتها أمراً قضائياً بإزالة التماثيل، ولكن المحاكم المحلية رفضت تنفيذ القرار. انتهت الحكومة إلى وضع قفل على المسجد واعتباره "ملكية متنازع عليها"، ومُنع المسلمين من الصلاة فيه. ظل المسجد من وقتها وحتى الستينيات محل نزاع قضائي بين المسلمين والهندوس.
في منتصف الثمانينيات بدأت قضية مسجد بابُري تدخل معركة السياسة من خلال حزب كان وقتها ما زال هامشياً في الحياة السياسية الهندية وهو حزب بهاراتيا جاناتا. استغل الحزب القومي اليميني، القضية لكسب شعبية واسعة بين الأوساط الهندوسية بدعوى ضرورة هدم المسجد وبناء معبد في "مسقط رأس الإله رام".
في بداية التسعينيات قاد الحزب اليميني مسيرة جابت أنحاء الهند لمدة شهرين لكسب زخم شعبي يؤيد قضية هدم المسجد، وهو ما نتج عنه مئات من الاضطرابات التي راح ضحيتها 3 آلاف مسلم. وفي سنة 1992 قامت غوغاء من الهندوس المتطرفين بهدم المسجد في ظل وجود حشود من الجيش والشرطة التي لم تتدخل لمنع ما يحدث، واشتعلت نيران العنف مرة أخرى وراح ضحيتها أكثر من ألفي قتيل.
المسلمون على مفترق طرق في تاريخ الهند
وصفت وكالة بلومبرغ ما حدث في 1992 بأنه حدث "هزّ أسس النظام السياسي العلماني الرسمي للهند المعلن رسمياً"، وأدى إلى صعود حزب بهارتيا جاناتا كقوة سياسية جبارة أزاحت حزب المؤتمر العلماني، الذي حكم الهند دون انقطاع تقريباً منذ الاستقلال عن بريطانيا. وتؤكد الوكالة أن ذلك الحدث قد أطلق سلسلة من الأحداث التي أعادت تعريف سياسة الهوية الاجتماعية في الهند.
منذ ذلك التاريخ وأطلال مسجد بابُري تمثل نذير شؤم لملايين المسلمين في الهند، بينما تمثل مكتسب سياسي لحزب بهاراتيا جاناتا. في نوفمبر 2019، قضت المحكمة العليا في الهند بأحقية الهندوس في أرض مسجد بابُري، وبدأ وضع حجر الأساس لبناء معبد على أطلال المسجد. وفي سبتمبر 2020 تمكن قادة حزب بهاراتيا جاناتا من انتزاع برائتهم في قضية التآمر الجنائي لهدم المسجد.
في يناير 2024، انطلقت الحملة الانتخابية لرئيس وزراء البلاد ناريندرا مودي، لولاية ثالثة، بافتتاح المعبد، في حضور آلاف الهندوس. كان من بين الحضور أعيان ونخب المجتمع الهندي من كبار رجال الأعمال، مثل موكيش أمباني ونجوم بوليوود مثل أميتاب باتشان.
في مراسم افتتاح المعبد، اتخذت كلمة رئيس الوزراء صبغة كاشفة عن سياسات حزبه، حيث قال مودي إن الإله جعل منه أداة لتمثيل شعب الهند برمته. وفي موضع آخر قال إن "تاريخ 22 يناير 2024.. يؤذن بقدوم حقبة جديدة"، وأضاف: "بكسره أكبال العبودية على البلد أن ينهض ويأخذ العبر من الماضي". والعبودية التي أشار إليها مودي في حديثه هي الوصف الذي يستخدمه أبناء الحزب دائماً للإشارة إلى الفترات السابقة من الحكم الإسلامي على أجزاء من الهند.
وماذا بعد؟
إذا كان السؤال عمن أحق بتلك الأرض المتنازع عليها، فربما كانت الإجابة البسيطة لتقول إن الهندوس أحق بها، فكل أرض الله مسجد، ولكن وحدها هذه البقعة من الأرض وُلد عليها الإله رام كما يدّعي الهندوس. وقد كان هناك معبد قديم هدمه الإمبراطور بابُر، في القرن السادس عشر، ليبني مسجده، وبالتالي فقد خالف الإمبراطور القاعدة الإسلامية التي تحرم هذا الفعل.
وربما كانت الإجابة لتكون حالمة أكثر وتقول إن الأرض ملك للجميع، وهي فرصة عظيمة بحكم قدسيتها الهندوسية، وقيمة البناء (المسجد) الأثرية، يجعلها موقعاً دينياً بديعاً يحتضن المسلمين مصلين لله، والهندوس متعبدين لرام، جنباً إلى جنب في مشهد سريالي من بلاد الهند الجميلة المسالمة.
وكانت الإجابة يمكن أن تكون بهذه البساطة لو لم يكن هناك بضعة معابد في بلدة أيوديا الصغيرة، تدّعي جميعها أنها بُنيت على موقع ميلاد الإله الهندوسي، أو إذا لم تكن القضية من بدايتها ليست سوى ديماجوجية سياسية تتلاعب بمشاعر الناس الدينية، وتحقق مكاسب سياسية لناريندرا مودي وحزبه القومي المتعصب. ديماجوجية سياسية تساعد حزب (الشعب الهندي) على تحريك دفة التاريخ في الاتجاه الذي تشاؤه سياساته القومية.
تلك السياسيات التي تتبنى التفوق الهندوسي في البلاد، وتسعى إلى تحويل الهند من ديمقراطية علمانية إلى أمة هندوسية. سياسات تريد التخلص من "الزوائد المسلمة" في جسدها، من خلال عمليات بتر عنيفة، لا أحد يعلم مدى خطورة النزيف الناتج عنها. أما ناريندرا مودي فيعرف جيداً أن افتتاح هذا المعبد سوف يحقق له كثيراً من المكتسبات السياسية التي سيستخدمها بذكاء وقسوة شديدتين، ولكن ما الثمن؟ وإلى أين المسير؟
يرى ضياء أوس سلام، صاحب كتاب "أن تكون مسلماً في الهند الهندوسية"، أن "هناك تخوفاً من أن هذه الحكومة وجميع أتباعها يريدون محو كل آثار المسلمين أو الحضارة الإسلامية من البلاد". وهو التخوف الذي يؤكد منطقيته ازدياد الهجمات الهندوسية على مئات المساجد الأثرية في الهند، والنزاعات القضائية المطالبة بهدمها بحجة بنائها على أنقاض معابد قديمة.
سياسات شديدة الخطورة تعيد صياغة البشر كآلات قتل بشرية مشحونة بكراهية طائفية، ليس في الهند وحدها ولكن في كل دول العالم، كأحداث العنف التي أطلقتها حشود من الهندوس في شوارع لينكستر في بريطانيا في سنة 2022، وسببت مناوشات خطيرة بين المسلمين والهندوس ادت لتحطيم السيارات وجرح رجال الشرطة.
كراهية طائفية تعيد صياغة الإنسانية والمواقف الأيديولوجية والسياسية وتدفع الهندوس إلى التهليل للمجزرة الصهيونية التي ترتكبها اسرائيل في غزة بعد 7 أكتوبر 2023، وهو ما نراه بوضوح في تعليقات وردود أفعال الهندوس على وسائل التواصل الاجتماعي.
فهل تشهد الهند قريباً واحدة من أكبر وأبشع الإبادات الجماعية في التاريخ؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.