لقد انتشر اسم المفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله تعالى، في أثناء الحرب التي تعيشها غزة اليوم؛ حيث كانت له بصمةٌ كبيرةٌ في دراسته التحليلية للعقل الصهيوني والتمييز بين اليهودية والصهيونية، فاستعمل مصطلحات مبهرة لتفسير الظاهرة الصهيونية، مثل الحلولية الكمونية الواحدية والحوسلة والشعب العضوي المنبوذ، وغيرها من تعبيراتٍ فلسفية تهدف إلى تفكيك الحالة الصهيونية، ووصفها بأنها جزءٌ لا يتجزأ من المادية العالمية الغربية التي استبعدت من بنيتها ومن عقلها الحالة الروحية والتصورات الميتافيزيقية.
لقد استطاع في مجلداته "اليهود واليهودية والصهيونية" أن يتوسع في دراسة الشخصية اليهودية وأخلاقها وعقلها، وكسر الصورة النمطية المتداولة بين الناس من مثل عدم اندماجهم في المجتمع العربي قبل الإسلام، وفي العصور الإسلامية اللاحقة، ولكن من أهمّ المواضيع التي تطرَّق لها الدور الوظيفي للجماعات العضوية، أي اليهودية.
فلقد وصف المسيري اليهود أثناء وجودهم في أوروبا بأنّهم جماعات ومجتمعات بشرية ذات خصائص وظيفية، وقد جنّدت المجتمعات الأوروبية تلك الجماعات لأغراض معينة، فعلى سبيل المثال الربا كان محرماً عند المسيحيين، ومن أجل التحايل وإيجاد طريقة ملتوية لجأوا إلى اليهود من أجل جني المكاسب المالية والبحث عن الربح. واليوم وقد مضى على رحيل المفكر عبد الوهاب المسيري قرابة الستة عشر عاماً، فالحالة الوظيفية التي تكلم عليها تغيرت وتبدّلت وانتقلت من حالة وظيفية إلى حالة توظيفية، وهذا ليس مبالغاً فيه، ونتساءل كيف نفهم هذه الحالة المستجدة في العقل الصهيوني الحديث؟
طبيعة الوظيفة بين النخب الحاكمة والدولة الصهيونية
إن ما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يُعتبر لحظةً مفصليةً تؤكد هذا التحول الذي حصل، ولكن هذا التحول لم يكن فجائيّاً وعرضيّاً أو حالة طارئة. قبل تفسيرها وتحليلها بالأدلة علينا العودة قليلاً إلى الوراء وإلى تاريخ سقوط الدولة العثمانية، ففي ذلك التاريخ تمّ تقسيم المنطقة ضمن رؤية سايكس بيكو، إلا فلسطين التي خضعت لوعد اللورد بلفور، حيث بدأ تصدير اليهود من أوروبا إلى المنطقة العربية، والتجهيز لإقامة دولتهم المزعومة. لقد تمّ اصطناع حدود إدارية عكست لاحقاً العقل العربي الذي انتقل من مفهوم الأمّة إلى مفهوم الشعوب القطرية المتصارعة فيما بينها، وهذه الدول كانت على قياس العقل الاستعماري الكولونيالي، ولكل دولة وظيفة معينة خدمت الدول الأوروبية، في الفترة ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت الزعامة العالمية، بشكلٍ علني، إلى الإمبراطورية الأمريكية الناشئة، فانتقل الدور الوظيفي من خدمة الأوروبي إلى خدمة الأمريكي، فكل دول المنطقة كانت تقدم الخدمات للسيد العالمي مقابل الحفاظ على العروش والمناصب، ومن ضمن تلك الوظيفة التي أسندت إليها هي حماية الكيان الصهيوني؛ كقاعدة غربية متقدمة وضمانة لحماية مصالحهم الاقتصادية والسياسية. وكي نفهم الدور الوظيفي أكثر علينا أن ندرك أن الهامش للتحرك ضيق، ولا يمكن الخروج على الأطر والهوامش التي وضعتها القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتبقى مساحة التحرك والمناورة ضمن الحدود التي رسمتها الرؤية الإمبريالية غير التقليدية، وأي محاولة للخروج على تلك القواعد يعني خروجاً على طاعة السيد الأكبر.
واليوم، ما يحصل في غزة مضافاً إلى تقاعس النخب العربية هو للأسباب التي ذكرتها ولطبيعة الوظيفة التي أُعطيت لهم عند تأسيس تلك الدول. أما الكيان الصهيوني، فقد كانت طبيعة العلاقة بينه وبين الأمريكي طبيعة وظيفية كما فصّلها المسيري في مجلداته القيمة، ولكن، بعد سنة 1967، أي تاريخ النصر الساحق للقوات الإسرائيلية على القوى العربية، في بضع ساعات، واحتلال مناطق واسعة، في ستة أيام فقط، حوّل هذا النصر طبيعة العلاقة في لحظة تاريخية من علاقة وظيفية بين سيد وموظف إلى علاقة ندية نوعاً ما.
أما اليوم، فلقد استطاعت إسرائيل، وبكل مكوّناتها العسكرية والدبلوماسية والجيش الإلكتروني، أن تطوّع الإرادة الدولية وتضعها تحت خدمة المصالح الإسرائيلية حصراً، ولا شكّ في أن القوى الغربية وعلى رأسها الأمريكي يهمها الدور الإسرائيلي والحفاظ على صورتها النمطية (إسرائيل هي الواحة الوحيدة للديمقراطية في الشرق الأوسط)، وأنها دولةٌ لا تقهر، وهي دولةٌ تعددية على غرار الأنظمة العربية، فكل تلك التخيلات والصور التي زُرعت في عقولنا كانت مجرّد أكاذيب وأساطير؛ حيث تطرّق المفكّر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" إلى الأسلوب الإسرائيلي في خلق الأساطير؛ وليس أقلّها مفهوم الهولوكوست.
تبدل العلاقة من وظيفة إلى توظيف
في هذه الحرب لقد بات جلياً ومن دون أدنى شك عجز المنظومة العربية عن التحرك، لأن دورها كما ذكرنا وظيفي لا يمكن أن تتجاوزه، ما يقيد هامش تحركها، أما الكيان الصهيوني فلم يتقيد بأي مواثيق دولية وأعراف؛ حيث إنّ القيد الوحيد الذي التزمه هو القتل ولا شيء غير القتل، ولم يسلم مستشفى ولا طفل ولا أمراة من التوحش الذي يمارسه، فكل المحرمات الدولية التي صانتها المواثيق وحقوق الإنسان والأمم المتحدة كانت تُخرق ليل نهار، أمام مرأى العالم من دون أن تتحرك الدول التي أسست هذه المواثيق، وكانت مشاركة في صياغتها، لا بل كانت تدافع عن إسرائيل وعن حقها في الدفاع عن نفسها، وهذا الدفاع يفتح مجال تساؤلات عدة، هل الدفاع هو من منطلق الرؤية الغربية أو من منطلق الدور التوظيفي الذي باتت إسرائيل تؤدّيه اليوم؟
بدأت تتزايد الضغوط على الدول الغربية التي تدعم إسرائيل، وأصبحت ساقطة نسبيّاً أمام شعوبها، قبل أن تكون ساقطة أمام الشعوب الأخرى، ما يعرِّض مصالحها الاستراتيجية للخطر، وهذا تماماً ما يفتح النقاش في تبدل دورالكيان الإسرائيلي التاريخي، ولنأخذ مثالاً قضية محاكمة روجيه غارودي، سنة 1998، وما أثاره كتابه من ضجة عالمية، فلقد استطاع اللوبي الصهيوني واليهود المتصهينون الذين لا يمثلون إلّا اثنين في المئة من الشعب الفرنسي أن يضغطوا على القضاء الفرنسي، وأن يشكلوا رأياً عامّاً ضد غارودي، فانصاع القضاء والمؤسسات الإعلامية للكيان الصهيونيّ، بعد أن أثروا في العقل الفرنسي وفي النخب الفكرية والثقافية.
واليوم، فإنّ مجلس الأمن وكل الدبلوماسية الغربية والعربية تتحرك ضمن المصالح الإسرائيلية، فلم يخرج أي بيان قوي وجريء عن أي دولة عربية أو غربية يدين ما يفعله الكيان الإسرائيلي، ويقول علناً إن ما قامت به إسرائيل يُعتبر أفعالاً إجرامية، وجرائم حرب، ويجب إيقاف أعمالها العدوانية ومحاسبتها على هذه الأفعال، التي لا يمكن أن يتصوّرها العقل الإنساني المتحضر، فلقد سخّرت إسرائيل كل طاقاتها وإمكاناتها من أجل استمرار آلتها الحربية لتدمير الحجر وحرق الشجر وقتل البشر.
كيف يمكن توصيف موقف الرئيس الأمريكي، أقوى رجل في العالم، وعلى رأس أقوى سلطة عالمية، متبنّياً الدعاية الإسرائيلية التي روّجت، عند بداية الحرب، أن المقاومة قامت بقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء من دون أي دليل حقيقي؟ وتبين لاحقاً أن كل الصور ملفقة ومفبركة، وحتى الإعلام الغربي والقنوات العالمية تبنّت هذه الأكاذيب وسوّقت لها، وكيف نفسر طرد كل من يُعبر عن رأيه المخالف للرواية الإسرائيلية؟ أين هي الحرية والديمقراطية والليبرالية؟ ماذا تبقّى منها؟ كيف نقرأ تغلغل منظمة الـAIPAC ضمن صنّاع القرار والإعلام الأمريكي؟ وهذا يؤكد، بشكل لا لبس فيه، مدى سيطرة الكيان الإسرائيليّ على القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه استطاع إدخال الأمريكي في أتون الحرب من خلال الاشتباك مع الفصائل الشيعية في العراق، والحوثيين في اليمن وفي سوريا ولو بشكلٍ محدود.
لم يستطع العقل العربي التحرر من الطبيعة الوظيفية التي نشأ عليها في العصر الحديث؛ حيث وظفته القوى الغربية لخدمتها، ما جعل المنظومة العربية عاجزة عن التحرك للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، وكل تحرك يجب أن يبقى ضمن الحدود التي رُسمت من قبل القوى الغربية، أما العقل الإسرائيلي فلم يعد يقتصر دوره على أن يكون جماعة عضوية وله دورٌ وظيفي، إنما أصبح دوره توظيفياً، بعد أن وظّف كل العالم تقريباً لخدمة قضيته المزعومة والمتخيّلة، وهذا الدور زاد من الشرخ بين الشرق والغرب، وزاد من انتشار الإسلاموفوبيا وكراهية الغرب للإسلام والمسلمين، وأسهم في صعود اليمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.