في يوم الأحد الموافق 25 فبراير/شباط 2024، شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن حدثاً ربما سيكون له شديد التأثير داخلياً وخارجياً، عندما أقدم طيار في الجيش الأمريكي على إحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية، في بث مباشر عبر منصة Twitch. وقد صاح الطيار معلناً: "لن أتواطأ في المجزرة"، مؤكداً عدم رغبته في الاستمرار في الصمت تجاه الإبادة الجماعية في غزة، وهتف بشعار "فلسطين حرة" قبل أن يضرم النار في نفسه.
المتحدثة باسم القوات الجوية الأمريكية، آن ستيفانيك، أكدت لصحيفة نيويورك تايمز أن الرجل كان طياراً يخدم فعلياً في القوات الجوية. وقد تم نقل الطيار إلى مستشفى بالمنطقة في حالة حرجة بعد أن أخمد أفراد من جهاز الخدمة السرية الأمريكية النيران. وتجري الشرطة المحلية والخدمة السرية تحقيقات في الواقعة.
ذلك الفعل يشير إلى الأثر النفسي والاجتماعي العميق الذي يمكن أن تخلفه الحروب على الأفراد، خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم متورطين فيها بشكل مباشر. تُظهر مثل هذه الأحداث كيف يمكن للضغوط النفسية والأخلاقية الناتجة عن المشاركة في الحروب أو معايشتها، حتى ولو بالمشاهدة، أن تدفع الأفراد إلى اتخاذ مواقف شديدة اليأس والتضحية.
في الحروب الكبرى تقع بعض الأحداث التي قد لا ينتبه إليها الكثيرون وقد يعتبرها البعض عرضية، ولكن يتبين مع مرور الأيام أنها غير ذلك، وتكون لها تأثيرات كبيرة، إذ تكشف عن تأثيراتها العميقة والمعقدة على الوعي الجماعي والفردي مع الوقت. تُعتبر هذه الحادثة بمثابة تذكير صارخ بأن الحرب تتجاوز المعارك والاستراتيجيات لتمس جوهر الإنسانية وتؤثر على القيم والمعتقدات الأساسية للأفراد، ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى رفع أصواتهم بطرق لا يمكن تجاهلها.
وقد كتب المنظر العسكري الألماني الشهير كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831): "لا أحد يبدأ حرباً من دون أن يدرك بوضوح في ذهنه ما ينوي أن يحققه من خلال تلك الحرب، وكيف ينوي إدارتها". هذه المقولة تمهد الأرضية لفهم النظرة العميقة التي كان يحملها كلاوزفيتز تجاه الحرب بشكل كامل ومفهومها.
كان يعتقد أن الحرب هي جزء لا يتجزأ من سلسلة متصلة تشمل التجارة، والدبلوماسية، وجميع التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. هذا المفهوم يتحدى بشكل جذري الأفكار التقليدية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والتي كان ينظر من خلالها إلى الحرب كحدث معزول يبدأ ثم ينتهي بمجرد الفصل بين المقاتلين.
في نظر كلاوزفيتز، الحرب لم تكن مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف بالقوة فحسب، بل كانت أداة ضمن مجموعة أوسع من الأدوات المتاحة للدول لتحقيق مصالحها. وبالتالي، كان النصر في الحرب، وفقاً لكلاوزفيتز، يتطلب إيجاد وتحييد "مركز الثقل" للخصم، وهو ما يعني غالباً هزيمة جيشه. لكن، وبشكل أكثر عمقاً، أكد كلاوزفيتز على أن "العناصر الأخلاقية هي من أهم العناصر في الحرب"، والتي تنعدم لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال حربها الاستعمارية اليوم على غزة، فهذه العناصر تشكل الروح التي تتخلل الحرب ككل، وتؤمن ارتباطاً وثيقاً بالإرادة التي تحرك وتقود كتلة تامة من القوة.
وألمح كلاوزفيتز إلى أهمية الروح المعنوية والأخلاقية للقوات المقاتلة وكيف يمكن للاستراتيجية الناجحة أن تتجاوز مجرد الاشتباكات العسكرية المباشرة لتشمل تحطيم معنويات العدو أو حتى تجنب مواجهته العسكرية المباشرة بالكامل. هذا الفهم يعكس بعداً استراتيجياً رفيع المستوى يرى الحرب كجزء من مجموعة أوسع من الأدوات السياسية والدبلوماسية المتاحة للدولة، ما يدفع بالتفكير العسكري إلى آفاق جديدة.
من أهم نظريات الحرب التي طرحها المفكر الاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز هي نظرية "ضباب الحرب" (Fog of War)، التي تشير إلى أن الحروب تحمل مفاجآت غير متوقعة لا يمكن تنبؤها مسبقاً. لذا، تكمن أهمية المرونة في تغيير الخطط لمواجهة التطورات المفاجئة ولتقليل تأثير الأخطاء، سواء على المستوى السياسي أم الاستراتيجي العسكري، وهذا ما أصاب جيش الاحتلال الإسرائيلي، فبينما كان يرى أنه بإمكانه الانتصار في الحرب بآلياته العسكرية الجرارة دون الذهاب للمفاوضات، أو خسائر كبيرة سواء مادية أم سياسية على المستوى الدولي، فدخل الحرب دون أي أفق سياسي أو رؤية لكيفية إنهائها، فمني بهزائم في الميدان وعلى الصعيد السياسي الدولي، إذ دمرت سرديته الكاذبة، وخسر التضامن العالمي من بعض الشعوب.
إن ضباب الحرب يعكس الفجوة بين الواقع وما كان مخططاً له في الاستراتيجيات الحربية، حتى في ظل توافر المعلومات الاستخباراتية، التي قد تكون مضللة في بعض الأحيان.
ضباب الحرب، ذلك الواقع الذي يخيم على كل نزاع عسكري، يقدم تحدياً حتمياً يجبر الدقة واليقين على التراجع أمام السرعة والمرونة. هذه الظاهرة لا تخلق فقط بيئة من عدم اليقين، ولكنها تفرض أيضاً تحولاً في العقيدة العسكرية الحديثة نحو استراتيجيات أكثر تكيفاً وسرعة في الاستجابة. وتتجلى تجربة ضباب الحرب في ساحة المعركة بشكل ملموس، حيث يؤدي الارتباك بشأن التوجه، والموقع، والمنظور، إلى انفصال بين الضباط والجنود، وتصبح الأوامر مبهمة ومتغيرة بسبب انقطاع خطوط الاتصال. الأصوات والرؤية تصبح محدودة، ما يزيد من صعوبة التفسير ويعمق حالة الضباب الإدراكي.
في مواجهة هذا الواقع، تسعى الجيوش إلى تطبيق أنظمة وعقائد القيادة والسيطرة المصممة لتخفيف وطأة ضباب الحرب. لكن عندما تواجه القيادة العسكرية للاحتلال حالة من الهستيريا نتيجة لضربة مفاجئة من المقاومة، كما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تبرز تحديات ضباب الحرب بشكل مؤثر. الصدمة الناتجة عن الضربة أدت إلى ارتباك وفقدان التوجيه، ما تسبب في تكبد الاحتلال لخسائر متواصلة حتى اليوم. هذا الوضع يؤكد على الطبيعة المتقلبة وغير المتوقعة للحروب، لها تأثيرات ونتائج أعمق من أن تحسب في بعض الأوقات.
تدخل حرب غزة خلال أيام شهرها السادس دون أن يتمكن الجيش الإسرائيلي وحلفاؤه من تحقيق الأهداف المعلنة، ما يدفع للتساؤل بشأن اليوم التالي للاحتلال بعد الحرب.
في هذا الإطار، يرى رفيف دروكر، المحلل السياسي بالقناة 13 الإسرائيلية، أن "مستقبل إسرائيل ليس وردياً"، مؤكداً أن ما يحدث في غزة يعتبر دليلاً على ذلك. ما تعانيه إسرائيل في غزة وانعكاس ذلك لا ينعكس فقط على الجبهة العسكرية، بل يمتد تأثيره ليشمل الأبعاد السياسية، والأمنية، وكذلك تأثيره العميق على المجتمع الإسرائيلي نفسه.
من جهته، يحذر اللواء الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك، في حديثه مع صحيفة "هآرتس"، من أن استمرار الحرب سيؤدي إلى انزلاق إسرائيل نحو الهاوية على مختلف الصعد: الاقتصاد، الأمن، المجتمع، والعلاقات الدولية، بما في ذلك خطر عدم إمكانية العودة إلى وضع مستقر بعد ذلك.
هذا الوضع المعقد، المعزز بالهستيريا والارتباك الذي خلقه ضباب الحرب، يسلط الضوء على الفجوة بين الواقع الميداني والتخطيط الاستراتيجي، ما يضاعف من الخسائر ويعمق الأزمات داخل الاحتلال الإسرائيلي.
مع تفاقم هذه الأزمات لدى الاحتلال، تبرز الأسئلة حول كيفية تعامل إسرائيل مع تغير موازين القوى العالمية، وتراجع القوة الأمريكية، والتحديات المتزايدة من حركات المقاومة عبر المنطقة، من فلسطين إلى لبنان، ومن العراق إلى اليمن، وسوريا، وإيران. إن إسرائيل في اليوم التالي للحرب قد تجد نفسها أمام قنبلة موقوتة من الأزمات المتعددة الأبعاد، ما يضع علامة استفهام كبرى بشأن مستقبلها وقدرتها على التنقل في هذا المشهد الجيوسياسي المعقد والمتغير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.