لقد شاع استخدام عبارة "لوم الضحية" (victim blaming) بعد نشر كتاب، عام 1971، لعالم النفس والاجتماع ويليام رايان، يحمل عنواناً بهذا التعبير. في كتابه "لوم الضحية" (أو إلقاء اللوم على الضحية)، يلقي رايان نظرة نقدية على مجموعة من الدراسات والبرامج الاجتماعية التي تم وضعها في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال عقد الستينيات، للقضاء على الفقر والجريمة والعنف في المدن، ولوضع حد للانفجارات الاجتماعية التي وصلت إلى ذروتها مع أعمال الشغب العرقية عام 1968.
تاريخ المفهوم
في كتاب رايان يشكل تقرير بعنوان "الأسرة الزنجية: قضية للعمل الوطني"، الذي وضعه دانييل باتريك موينيهان، الموضوع الأساسي للنقد. يعتبر هذا التقرير أنّ سبب الفقر في بعض الأحياء والمناطق المدينية، ولا سيما في وسط المدينة، مرده إلى حالة الانهيار التي تعاني منها -بحسب ما يقول التقرير- تركيبة الأسرة لدى الأمريكيين السود (أي الأفريقيين الأمريكيين، بتعبير اليوم)، مقترحاً أن تقوم الحكومة بمعالجة الفقر المزمن من خلال إعادة هيكلة "الأسرة السوداء" وتقويتها. في كتابه "لوم الضحية" أظهر رايان عدم دقة البيانات والطبيعة المشكوك فيها للنظريات التي تقوم عليها مثل هذه التحليلات، مشيراً إلى العوامل الحيوية التي غالباً ما يتم إهمالها، وأهمها المتغيرات الاقتصادية. يصف رايان، ببلاغة كبيرة، موينيهان وغيره من "المصلحين" الاجتماعيين، بأنهم "لائمو ضحايا"، مبيناً كيف أنهم يساهمون في قمع الفقراء، وتبرير هذا القمع من خلال إيجاد "عيوب" في "طبيعة" الفقراء أنفسهم، متجاهلين بذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تولّد الفقر، وتشكل عناصر استمراريته.
يعتبر رايان في كتابه أنّ "لوم الضحية" ليس أمراً مركّباً نفسياً فحسب، بل هو أيضاً أيديولوجيا قائمة بحد ذاتها، ناتجة عن تشويه للواقع، بدوافع تلقائية، ولكن غير مقصودة، متجذرة في المصلحة الطبقية المتمثلة في الحفاظ على الوضع الاجتماعي الراهن. يقول رايان إنّ لائمي (أو مؤثمي) الضحية يهملون النظرة الشاملة للفقر وأسبابه، أي النظرة التي قد تؤدي إلى المطالبة بإعادة التوزيع الأساسي للسلطة والموارد، ويفضّلون السهولة الفكرية، وذلك من خلال الإشارة إلى ما يتيسر بين أيديهم من مظاهر ثقافية مرضية باعتبارها مصدر المشكلة، وإلى ضرورة استئصالها باعتباره العلاج المعجزة. بكلام آخر، يتم تصميم الحلول دائماً بهدف "تغيير" في الضحية، وليس أبداً بهدف تعديل الظروف المحيطة بالضحية، وكأنّ المشكلة عضوية في الضحية، وليست في الظروف المحيطة بها.
يعتبر رايان أنّ لوم الضحية هو أيديولوجيا خاصة بالليبرالية، فعلى عكس فظاظة العنصرية، يقدم لوم الضحية حلاً وسطاً لا يخلو من النفاق للطبقة الوسطى الليبرالية، إذ يمكنها من الحفاظ على النظام الذي يفضّلها على حساب شرائح اجتماعية أخرى، دون أن تظهر بمظهر من لا يهتم بهذه الشرائح الاجتماعية الأخرى التي تدفع ثمن هذا التفضيل. باختصار، في نظر رايان، إلقاء اللوم على الضحية هو جزء من بنية أيديولوجية أكبر، تعمل على تعزيز وتبرير عدم المساواة الطبقية، كما أنه متجذر في اللاوعي الجماعي.
وفي سياق متصل، ظهرت فكرة "علم الضحية" (العلم المخصص لدراسة شؤون الضحايا) لأول مرة في سياق البحوث القانونية المتعلقة بجريمة الاغتصاب، وقد كان المحامي بنيامين مندلسون، منذ 1937، أحد رواد هذا النوع من البحوث، ويعتبر أباً لهذا العلم، فقد كان مقتنعاً بالحاجة إلى مجال بحثي متميز عن علم الجريمة، يركز الاهتمام على الضحية. وبعد ذلك أسهم توسيع نطاق الفقه والاجتهاد (الوطني والدولي) ليشمل فئات جديدة من الجرائم بعد الحرب العالمية الثانية، وأشهرها "الجرائم ضد الإنسانية"، في زيادة الاهتمام بالضحايا كضحايا، ومع الإشارة إلى أنه لم يتم تنظيم "علم الضحية" كعلم قائم بذاته، حتى السبعينيات، أي بعد نشر كتاب رايان آنف الذكر.
لعل هذا الاهتمام العابر للاختصاصات (علم النفس، علم الاجتماع، العلوم القانونية، إلخ) بمفهوم لوم الضحية، وانتشاره الثقافي الواسع، مرده إلى سبب أخلاقي أساسي، وهو أنّ لوم الضحية يشكل ظلماً مزدوجاً، تراكمياً، إضافياً، للضحية، ولا سيما أنه يحتوي على تضامن، ولو ضمنياً مع المجرم.
لوم الفلسطينيين ومقاومتهم للاحتلال
نلاحظ اليوم أنَّ كثيراً من المراقبين، والمعلقين، والكتّاب، والمثقفين، ولا سيما في العالم العربي، يحمّلون مسؤولية ما يجري في غزة، منذ ما يقارب الخمسة أشهر، من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ولما يمكن أن يرقى لجريمة إبادة، ومن قتل وتدمير بحق الشعب الفلسطيني، للفلسطينين أنفسهم، ولا سيما لمقاومتهم التي تجرأت على القيام بعملية 7 أكتوبر.
جدير بالذكر أنه في موضوع النزاعات المسلحة لا يقتصر "لوم الضحية" على الحالة الفلسطينية، فقد رأينا مثلاً كيف شاعت، منذ 2022، ولا سيما في بلدان "الجنوب العالمي"، ثقافة لوم الأوكرانيين على اجتياح روسيا لبلدهم، وعلى احتلال روسيا لجزء معتبر من أراضي جارتها.
بالعودة إلى غزة، وبالنسبة للائمي الضحية هؤلاء، لا تقع المسؤولية في المقتلة الجارية في غزة على الجلاد أو المجرم (إسرائيل)، بل على الضحية، لأنها قاومت الجلاد أو المجرم، ويتم لوم الضحية إما بشكل كلي، أي عبر إغفال مسؤولية الجلاد (أي إسرائيل)، فلا ترى في كلامهم أي ذكر لمسؤولية إسرائيل عما يقوم به جيشها في غزة.
وإما يتم لوم الضحية بشكل جزئي (بما لا يخلو من الكثير من النفاق)، وذلك عبر المساواة، بين الضحية والجلاد، في المسؤولية عن الضرر اللاحق بالضحية بفعل الجلاد. وفي موازنتهم بين الجلاد وبين الضحية (أي الفلسطينيين)، في المسؤولية عما يجري في غزة، يتلطى هؤلاء خلف موضوعية زائفة، يحورون جوهرها، إذ يخلطون بين الموضوعية من جهة وبين الموازنة بين ما لا يمكن الموازنة بينه أخلاقياً (الضحية والجلاد) من جهة أخرى.
بالنسبة للائمي الضحية هؤلاء المشكلة ليست في الجلاد أو المجرم (إسرائيل)، وهمجيته، وبربريته، وعنصريته، وفاشيته، واحتلاله الذي هو أطول احتلال في العالم من حيث المدة الزمنية، وسياساته الاستيطانية، وانتهاكه اليومي للقانون الدولي، وممارساته اليومية التي ينتهك بها أبسط حقوق الإنسان، ونظام الفصل العنصري الذي يرسيه، وهدمه العقابي للبيوت، وقتله وتشريده للفلسطينيين، بحرب وبدون حرب، وإفلاته من العقاب، وتواطؤ غرب "الديمقراطية وحقوق الإنسان" معه.
بالنسبة لهؤلاء، المشكلة أساساً في الضحية، وفي ثقافة الضحية، لا سيما في الثقافة الدينية للفلسطينيين، إذ غالباً ما يجري هؤلاء قراءة ثقافوية غير سياسية، لما هو أساساً سياسي (واقع الاحتلال ومقاومة الاحتلال)، أي قراءة سطحية تنم عن محدودية في التفكير، وعن منسوب من الإسلاموفوبيا، ولا سيما أنها غالباً ما تجري بناء على أفكار وصور نمطية مغلوطة وسخيفة.
الخطير أيضاً أنه يغيب عن هؤلاء البعد التاريخي لموقفهم هذا في لوم الضحية، فما كان ليكون موقف هؤلاء أثناء الحرب العالمية الثانية مثلاً؟
التاريخ لا يرحم
في 27 مايو 1942، نفذت المقاومة التشيكوسلوفاكية عملية "أنثروبويد"، التي تم التخطيط لها من قبل المخابرات البريطانية، لاغتيال القائد النازي راينهارد هايدريش (الذراع اليمنى لقائد وحدات الإس. إس، هاينريش هيملر)، في براغ، العاصمة التشيكوسلوفاكية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الألماني. وقد ردَّ النازيون على اغتيال هايدريش بتنفيذ مجزرة عقابية في قرية ليديس (Lidice massacre)، ترافقت مع ترحيل سكان هذه البلدة، بشكل أساسي نحو معتقلات الموت، وذلك بأوامر شخصية من هتلر. هذا مع العلم أنه لا يمكن مقارنة أعداد القتلى والمرحّلين من ليديس (مجموعهم حوالي 300 شخص)، بأعداد القتلى والمرحّلين من غزة، التي تفوق هذا الرقم بأشواط من الفظاعة.
إن أجرينا نوعاً من القياس التاريخي الافتراضي، فلو كان لائمو الضحية ممن يلومون الفلسطينيين اليوم أحياء عند وقوع مجزرة ليديس، الأرجح أنهم كانوا قد لاموا المقاومة التشيكوسلوفاكية على تنفيذها عملية اغتيال هايدريش، بدعوى أنّ "العين لا تقاوم مخرزاً"، ولَما كانوا قد لاموا النازيين على همجيتهم، وعنصريتهم، واحتلالهم لتشيكوسلوفاكيا. ولَكان انتهى المطاف غالباً بلائمي ومؤثمي الضحية هؤلاء في "مزبلة التاريخ"، حيث يقبع عديمو الأخلاق والإحساس والإنسانية.
كثيرة جداً هي العناوين السياسية والقانونية التي يمكن من خلالها معارضة محور الممانعة، وإعلاء الصوت بوجهه، ولكن من غير الجائز أخلاقياً أن يكون، من ضمن هذه العناوين، قلب الموازين الأخلاقية، ولا سيما لوم الفلسطينيين ومقاومتهم للاحتلال على ما يجري بحقهم في غزة.
مواجهة محاولات نزع المشروعية عن مفهوم "لوم الضحية"
أخيراً، من الجدير بالذكر أنه من المتوقع أن يوغل لائمو الضحية في أدبياتهم، محاولين تبريرها من خلال ما يمكن تسميته باستراتيجية مناهضة مفهوم "لوم الضحية". فعلى مدى العقود القليلة الماضية، قامت عدة حملات سياسية/إعلامية في الغرب، ولا سيما في أمريكا، كردة فعل ضد ما سمّوه بكثير من الازدراء "ثورة الضحايا"، و"سياسات الضحية" (victim politics). وقد أعرب مثقفون، غالباً يدورون في فلك اليمين المحافظ، واليمين المتطرف، عن أسفهم لما يعتبرونه انحدار أمريكا إلى كونها مجرد "أمة ضحايا"، لا تفعل سوى التحسر على نفسها. ويتم تصوير الأفراد والجماعات الذين يطالبون بالاعتراف بوضعهم كضحايا، على أنهم مجرد مجموعة من العاجزين، الضعفاء، المتباكين على أنفسهم، المتلاعبين، المحتالين، الدجالين من أجل منفعة غير الناضجين، غير المستقلين، الذين يشكّلون تهديداً للمجتمع.
بكلام آخر هي محاولة لا تخلو من الهزل السخيف، لقلب "المظلومية" مرة جديدة، وذلك عبر لوم مفهوم "لوم الضحية"، وتأثيم من يرفض ثقافة تأثيم الضحية. الخطير في ذلك هو أنَّ مناهضي مفهوم "لوم الضحية" لا يسعون إلى إسكات الضحايا فحسب، بل إلى قمع أي محاولة لفهم الضعف، قاطعين بذلك الطريق على أي إمكانية لمعالجة الأسباب العميقة والفعلية للمشكلة. ولذلك لا بد من مواجهة هذه المحاولات أيضاً، ولا سيما بما خصَّ الشعب الفلسطيني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.