"المفروض كنت تكسر عضمها تبهدلها".. تناهت تلك الكلمات إلى سمعي قبل عدة أسابيع، حين مررت مصادفةً بصالة بيتنا، كان مصدرها برنامج تشاهده والدتي وقد بدا لي غريباً جداً، مَن تلك التي يجب أن يتم تكسير عظامها وإهانتها؟ ومن تلك المذيعة التي توجه رجلاً لكسر فتاة، وما القصة؟ هكذا جلست لأفهم بشكل أعمق قصة سوزي الأردنية.
اعتذار واحد ليس كافياً
كان البرنامج المعروض على إحدى الفضائيات المصرية يستضيف أسرة مكونة من أب وفتاتين وأُمّ بدت صامتة أكثر الوقت، وحين تحدَّثت بَكَت، وكعادة تلك النوعية من البرامج كان عامراً بالدموع، والشهقات، أما موضوع الحلقة فقد دار حول "سوزي الأردنية"، فتاة يقال إنها سبَّت والدها في بث مباشر، الفتاة الـ"تيك توكر" التي لا تزال طالبة، نشبت بينها وبين والدها مشاجرة عنيفة أثناء بث مباشر على تيك توك، تطورت إلى تعديات لفظية بشعة.
كان هذا هو السبب وراء استضافتها، كانت فكرة الحلقة تدور حول جمع الفتاة ووالدها لـ"مصالحتهما"، مع التأكيد على الفتاة أنه لا يجب على البنات أن يفعلن هذا بآبائهن، ثم انخرطت المذيعة في وصلة "حِكم ومواعظ" طويلة جداً، لم أنتبه سوى لمخارج الحروف الغريبة، والتي خرجت بطريقة تأثرت بكل تلك التدخلات التجميلية المؤثرة على نبرة صوت ومخارج حروف المذيعة.
كان تعليقي الأساسي على الحلقة بالكامل أن هذا ليس دور المذيع على الإطلاق، ليس هذا ما تعلّمناه في كلية الإعلام، فالفارق كبير بين المذيع والمصلح الاجتماعي، لكن السيدة الثائرة جداً طوال الحلقة، والتي حرصت على نبرة عتاب ولوم عنيفة، لم تختم الحلقة إلا وقد أمرت ضيفتها بأن تقبّل رأس والدها، والاعتذار له، مع التأكيد على أنها ليس لها سواه في العالم، وأن بإمكانه تكسير عظامها إن أراد، لكنه لم يفعل كرماً منه، فأمّنت الفتاة بنصف ابتسامة على كلامها، وانتهت الحلقة التي تصورتُ أن من بعدها قد انتهى كل شيء، لكن يبدو أن تلك لم تكن سوى البداية!
مزيد من مقاطع الفيديو راحت تُمطر المشاهدين بشأن سوزي ووالدها، من بينها ذلك الفيديو الذي حمل عنوان "سوزي أخيراً صالحت أبوها- مفيش حد بيكره بنته"، وعلى هذا المنوال تواصل ظهور الأب بصحبة ابنته، ليس في مقاطع فيديو للتصالح وحسب، ولكن أيضاً في مقاطع فيديو مشتركة أصبح فيها نجماً بدوره، عقب وصلة "السب والإهانة"الطويلة التي مُني بها من قبل، كما بدا أن ما جرى تم غفرانه من جانب المتابعين، الذين بلغ عددهم قرابة الـ2.7 مليون، عبر صفحتها على تيك توك فقط، فضلاً عن بقية المنصات الإلكترونية، ومشاهدات يوتيوب المليونية أيضاً، ناهيك عن كم الإعلانات، ومن ثم الأرباح، لكن سوزي، التي تتلخص موهبتها في الحديث بطلاقة ومن دون حواجز أو احتياطات، أو محاذير، أو قلق، لم يبد أن قصتها انتهت عند هذا الحد.
بوليس الآداب في منزل سوزي
فجأة، وقبل أيام قليلة، باغتني خبر عبر مواقع مختلفة، مفاده أن قوة من مباحث الآداب داهمت منزل سوزي، التي لم تلبث أن مثلت أمام النيابة العامة لتدلي بأقوالها، حول ماذا؟ حول واقعة سبّ والدها في بث مباشر، وهي التحقيقات التي شملت أقوالاً برَّرت فيها سوزي ما فعلته، فقالت: "أنا اندمجت في الفيديو غصب عني، ومقصدتش أهين أبويا قدام الناس"، وهي التصريحات ذاتها التي أكدت خلالها الفتاة العشرينية أن سبب الشجار من الأصل كان استيلاء والدها على أموالها التي تحصلت عليها عبر تطبيق تيك توك، وأنه رفض إعادتها لها، ما تسبب في خروجها عن حدود اللياقة عبر البث المباشر، وقد انتهى الأمر مؤقتاً، بقرار من النيابة العامة، تم على إثره إخلاء سبيل سوزي بكفالة مالية قدرها 5 آلاف جنيه.
لهذا تعاطفت مع سوزي!
من الاشمئزاز الشديد إلى التعاطف الشديد أيضاً، هكذا انتقلت من حال إلى حال أمام قصة فتاة، يبدو الجاني في قصتها واضحاً، لكن أحداً لا يرغب في رؤيته، على طريقة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، لن أنكر أنني عدتُ إلى المقطع الأصلي، الذي لا يزال رائجاً عبر صفحات ومواقع الإنترنت، وبعيداً عن كمّ السباب المقذع، إلا أنني انتقيتُ ما جعلني أفهم القصة بشكل أكثر بساطة، هناك فتاة، وهناك أب، يرى ابنته تقف أمام الكاميرا في كل الأوقات، وداخل المنزل، لكن الخلاف بشأن "المال"، وهو ما لم ينكره الأب، كما أن الفتاة التي اعتادت الحديث بصراحة خارقة ظلت ثابتة على روايتها في كل مرة، سواء في اللايف المذكور أو عبر البرامج التلفزيونية، أو تلك المذاعة عبر يوتيوب، رواية واحدة تقول: "والدي أخذ أموالي وطردني"، أما في اللايف نفسه فقد اتهمت الفتاة والدها بأنه سيرضى بكل، وأي شيء بشأنها، ما دامت هناك أموال، وأنه لا يرغب في أكثر مما تدرّه عليه، مهما كانت الطريقة، هنا تعاطفتُ معها، خاصةً أن والدها لم يتوقف لحظة
عن وصفها بـ"المريضة" نفسياً، حسناً إن كانت كذلك، فمَن السبب وراءه؟
يبدو أن ما مرت به فتاة التيك توك من تقريع مجتمعي انتهى بالسماح والصلح، لم يتوقف عند ذلك الحد، فمن وصمها بـ"المريضة" نالت الفتاة وصماً إضافياً عبر "بوليس الآداب"، الذي تولى القبض عليها، وهي وصمة وإن انتهت القضية فلن ينتهي أثرها على "سوزي"، التي بدت صادقةً جداً وهي تتحدث عن شقيقتها من ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي أكدت غير مرة، بتأكيد من والديها، أنها مَن تتولى الإنفاق عليها، وعلى بقية الأسرة، ولم يكذّبها أحد، فمن إذن الذي يستحق الزج به في السجن، ملايين من المتابعين الذين راحوا يصفقون ويعلقون ويرسلون الهدايا عبر تيك توك، أم الأب الذي ارتضى لابنته أن تصير "تريند"، واختار بإرادته أن يكون جزءاً من الصورة، أم المحامون الذين لم يتوقفوا عند ملايين المظاهر المؤذية، ولكن أوقفهم مقطع فيديو لفتاة تبدو بحاجة حقيقية للمساعدة؟.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.