مرة أخرى كانت قضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وخاصة الحرب الأخيرة على غزة، سبباً في تسليط الضوء على المعايير المزدوجة التي تتبناها الولايات المتحدة وأوروبا في التعامل مع الصراعات الدائرة في أجزاء مختلفة من العالم. وفي قلب هذا النقاش هناك اتهام للغرب بالكيل بمكيالين على الساحة الدولية، وهي تهمة ليست جديدة ولها جذور وشواهد تاريخية متعددة. فعند مقارنة ردود الفعل والسياسات تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا مع تلك المتعلقة بالهجوم الإسرائيلي على غزة، فإن التباين في الاستجابة صارخ ومثير للقلق.
لقد عبَّرت السيدة برونوين مادوكس، رئيسة مركز الأبحاث الإنجليزي المرموق تشاتام هاوس، عن هذا التناقض ببلاغة. ففي خطابها السنوي في 23 يناير/كانون الثاني 2024، سلطت مادوكس الضوء على التطبيق الانتقائي للقوانين الدولية من قبل الغرب، ودعم الحقوق الدولية بقوة في أوكرانيا، بينما يغض الطرف عن الأزمة في غزة؛ حيث تثير هذه المشاركة الانتقائية تساؤلات عميقة حول المبادئ التي توجه العلاقات الدولية والسياسة الخارجية في الغرب.
وقالت مادوكس أيضاً إنه في حين أن رغبة إسرائيل في تفكيك حماس قد تكون مبررة بسبب مخاوف أمنية، فإن الاستراتيجية العسكرية المستخدمة لتحقيق هذا الهدف غير مستدامة، ولا يمكن الدفاع عنها أخلاقياً. وقد بلغت الخسائر في صفوف المدنيين الناجمة عن ذلك في غزة مستويات لا يمكن وصفها إلا بأنها لا تطاق، مما يشير إلى الفشل في تحقيق التوازن الكافي بين الحق في الدفاع عن النفس وضرورة حماية أرواح الأبرياء.
بحسب القانون الدولي والوقائع التاريخية، فإن مسألة توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتي غالباً ما تكون على أراضٍ مملوكة للفلسطينيين تعتبر من أهم الأدلة على دخول الغرب في دوامة الدفاع المستميت عن إسرائيل حتى في أبشع صور التعدي على القانون الدولي أو القضاء على أي حلول سلمية مستقبلية.
حصلت هذه المستوطنات، التي تضم أكثر من 700 ألف مستوطن، على تصريح من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بل قامت هذه الحكومات بالتحفيز على الاستيطان من خلال الحوافز المالية وانخفاض تكاليف المعيشة مقارنة بإسرائيل نفسها. وقد تم انتقاد هذا التوسع في بناء المستوطنات بسبب تقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل، وبالتالي إعاقة احتمالات التوصل إلى حل سلمي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتعمل المستوطنات، إلى جانب شبكة واسعة من نقاط التفتيش، والاعتداءات والاغتيالات الممنهجة على تفتيت الضفة الغربية فعلياً، مما يجعل الدولة الفلسطينية المستقبلية تبدو أشبه بجيوب منفصلة وليس منطقة موحدة.
وتعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتحديداً اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل سكانها إلى الأراضي التي تحتلها. وعلى الرغم من ذلك، فإن المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، يرى باستمرار أن تصرفات إسرائيل في إنشاء وتوسيع هذه المستوطنات تشكل انتهاكاً للقانون الدولي. وقد وجدت محكمة العدل الدولية أن المستوطنات غير قانونية في فتواها الصادرة عام 2004 بشأن الجدار العازل في الضفة الغربية.
إن التوسع المستمر لهذه المستوطنات والدعم الذي تتلقاه من الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب انتقادات المجتمع الدولي والمعارضة القانونية، يسلط الضوء على تغاضي الغرب عن كل هذه الانتهاكات الموازية لعملية تصفية القضية الفلسطينية ككل ومنح إسرائيل تأييداً مستمراً لكل الانتهاكات التي تمارسها بحق الفلسطينيين.
وتمتد الانتقادات إلى ما هو أبعد من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ حيث إن تعاطف الغرب ودعمه المعلن لأوكرانيا، والذي يتناقض مع استجابته الصامتة لمحنة الفلسطينيين ومناطق الصراع الأخرى مثل العراق، يسلط الضوء على عدم الاتساق المثير للقلق. وتغذي مثل هذه التفاوتات في الاهتمام والعمل رواية النظام الدولي المتحيز، حيث تتوقف قيمة الحياة البشرية والسعي إلى تحقيق العدالة على المصالح والتحالفات الجيوسياسية.
وهذا التضامن الانتقائي لا يغيب عن الجمهور العالمي.. إن موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً على تقديم مساعدات بقيمة 95 مليار دولار لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان، مع حث الرئيس بايدن مجلس النواب على إقرار القانون، كانت بمثابة شهادة على الشبكة المعقدة من المصالح والأولويات التي توجه علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة. وفي حين أن هذا التمويل يهدف ظاهرياً إلى دعم الحلفاء وتعزيز المصالح الاستراتيجية، فإنه يورط أيضاً هذه القوى في عواقب استخدامه، بما في ذلك خسارة أرواح بريئة في صراعات مثل الصراع في غزة.
وتشير المعايير المزدوجة التي أبرزتها مادوكس وآخرون إلى شعور أعمق بالضيق داخل المجتمع الدولي. إن مبادئ السيادة وتقرير المصير وحقوق الإنسان هي مبادئ عالمية؛ ومع ذلك، يبدو أن تطبيقها انتقائي. وهذا التناقض لا يقوض مصداقية القوى الغربية فحسب، بل يعيق أيضاً حل الصراعات وتعزيز السلام العالمي.
إن معالجة هذه القضية تتطلب أكثر من مجرد الالتزام الخطابي بالمبادئ العالمية. فهو يتطلب إعادة تقييم السياسات الخارجية، والتأكد من أنها ليست مدفوعة بالمصالح الاستراتيجية فحسب، بل ترتكز أيضاً على التطبيق المتسق للقانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان. ويتعين على الغرب، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، أن يدرك تأثير سياساته وأفعاله على الساحة العالمية وأن يسعى جاهداً من أجل إقامة نظام عالمي أكثر إنصافاً وعدالة وهو أمر مستحيل في ظل الاستجابة البشعة للحرب على عزة وتأييد الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
وفي الختام، فإن القضية الفلسطينية والحرب الأخيرة على غزة سلطت الضوء مرة أخرى على المعايير المزدوجة التي تتبعها الولايات المتحدة وأوروبا في تعاملهما الدولي.
إن المشاركة والدعم الانتقائيين على أساس المصالح الجيوسياسية بدلاً من المبادئ العالمية للعدالة وحقوق الإنسان لم يساهما في إدامة الصراعات فحسب، بل أدى أيضاً إلى تآكل المكانة الأخلاقية لهذه القوى في الساحة الدولية. ومن أجل عالم أكثر سلاماً وعدلاً، فمن الضروري معالجة هذه المعايير المزدوجة وتصحيحها، مع تجديد الالتزام بالتطبيق العالمي للمبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي وحقوق الإنسان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.