أحب سورة النجم حباً جمّاً، في سنوات عمري الأولى كانت أكبر سورة أحفظها على جلسة واحدة دون تكليف، كلفتني أستاذتي بنصف صفحة كعادتنا، فحفظت نصفاً جذبني إلى النصف الآخر، ثم إلى نهايتها، حتى أن آياتها الثلاثة الطويلة نسبة إلى باقي آيات السورة الكريمة كانت أخف على قلبي من كل مثيلاتها في القرآن الكريم.
ربما لأني أحب "الإسراء والمعراج" بكل تفاصيلهما؛ تتجلى لي فيهما رحمة الله ولطفه بمجيئهما مباشرة في أعقاب ما لاقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قسوة ردِّ أهل الطائف، وأحب الصورة التي أهداهما الله له بها إجابةً لمناجاته الله بضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس.
أحبّ يد الله التي تربت على كتف رجل عاد إلى قومه من لقاء الله ليقصَّ عليهم ما رأى فكذبوه وأشاعوا جنونه، فرد الله عنه بـ{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ. وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ}. وأذهلني التفات الله -جلّ وعلا- لتفصيلة صغيرة عابرة في أخلاق حبيبه -صلى الله عليه وسلم- الذي يشهد أحداثاً مذهلة ويلِجُ أماكن يراها لأول مرة وهو على ذلك {مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ}.
أحب طيب وصفه -عز وجل- فيها لأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- وصفاً -على قصره واقتضابه- شديد البلاغة، شديد الشمول، شديد التعجيز لكل من هم دون إبراهيم من بني آدم، لأنه {إِبۡرَ ٰهِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ}؛ فماذا يمكن أن يُقدم أي إنسان ليفوق هذا الذي وفى حق الله في حياته وأقرّ الله له بذلك؟! تضخّ السورة في نفسي وقوداً لا شيء أقدر منها على ضخه بوعد الله فيها بأن {لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ. وَأَنَّ سَعۡیَهُۥ سَوۡفَ یُرَىٰ. ثُمَّ یُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ}، وتقف بعد هذا الوعد عند {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ}، التي تبث إلى القلب دفقة من وَجلٍ يُصحح مساره وفي الوقت ذاته تحوطه بغلافٍ من سكينة تهوِّن كل شيء.
أدخل بعدها في سلسلة من {وَأَنَّهُۥ هُوَ} أطابقها مع حياتي فأدرك مع نهايتها أنه كان هو حقاً في كل ما مضى، وأخلُص إلى أنه هو الملتحد الوحيد في كل ما قد يأتي، هو هو ولا يمكن أن يكون غيره. سورةٌ تمسح عنا الهموم وتقطع علينا نوبات الاكتئاب بسؤال ثاقب نافذ إلى العقل والقلب في آن واحد {فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ}. أحب سجدة "النجم"، أحب التوقيت الذي أبلغها فيه بعد هلعٍ تثيره في القلب {أَزِفَتِ ٱلۡآزِفَةُ}، أشعر فيها بيد الله ممدودةً بمفتاح لمكان هادئ ومطمئن، أو مشيرةً لمقرٍّ آمن مفتوح طوال الوقت لأركن إليه بعد كل انحرافة، أو دليلاً لمخرج متاح دائماً من كل دائرة تشتت؛ فيه تستقر الإجابة النموذجية لكل أسئلة الامتحان بأن {ٱسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ وَٱعۡبُدُوا۟}.
أقرأ سور القرآن الكريم على اختلافها، ولكن طقوساً خاصة أتأهب بها لقراءة "النجم" لأنها "النجم"، ولا أختبر تفاعل قلبي مع أصوات القُرَّاء بغيرها، وأخصُّ بهذا أقرب آياتها إلى قلبي والتي تحمل رداً وافياً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكل من يجادل في الإسراء به والمعراج إلى يومنا هذا، ومثيراً للشفقة تجاههم لأنه {مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰ}، ومن ذاق عرف! أختم قراءة السورة وأقول في نفسي "هذا بيان للناس"، وأعجب ممن قرأها ولا يزال عقله يطرح عليه التساؤلات بشأن أحداثها، فما الغريب في أن يحب الله عبداً فيصطفيه ويستدعيه للقائه ويُسَخِّر له ما يحضره لبابه؟! أمر يحدث الآن كل يوم بين البشر.. لم يكن ممكناً حينها؟! -صحيح، ولكنه الله وهذا نبيه.
كل شيء ممكنٌ بـ"كُن"ـه، وكل شيء مستحيلٌ بدونها. لله في الأرض معجزاتٌ لا تنقطع، ولله مع رسوله -صلى الله عليه وسلم- آياتٌ كثيرة، لكن حادثة الإسراء والمعراج لمن "يرى" ليست معجزة.. مرة أخرى؛ لأن من ذاق عرف!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.