ردّت حركة حماس الأربعاء 7 فبراير 2024 على اتفاقية الإطار، التي طُرحت خلال اجتماع باريس الذي عُقد منذ أيام، والتي تتعلق بالتوصل إلى تصور لوقف إطلاق نار في قطاع غزة، الذي يشهد عدواناً إسرائيلياً وحرب إبادة غير مسبوقة منذ السابع من أكتوبر 2023، أدت لاستشهاد أكثر من 27 ألف فلسطيني وإصابة عشرات الآلاف، معظمهم من النساء والأطفال، وقسمت الحركة وقف إطلاق النار والهدنة إلى 3 مراحل، تتضمن قضايا أساسية من بينها وقف القصف والعدوان والمجازر ورفع الحصار عن قطاع غزة، وعمليات تبادل للأسرى، وجوانب تتعلق بإعادة إعمار القطاع، وغيرها من الاشتراطات المتناسبة مع حجم التضحيات والشهداء، فيما ردَّت إسرائيل على رد حركة حماس بطريقة تترك المجال مفتوحاً لكسب مزيد من الوقت لارتكاب المزيد من جرائم الحرب، ومواصلة الإبادة الجماعية للمدنيين الفلسطينيين، مع تركها باباً صغيراً مفتوحاً للتفاوض على الشروط التي قدَّمتها حماس والمقاومة الفلسطينية.
ومن خلال مجريات الأحداث الحالية وفي عموم الحروب والاعتداءات في فلسطين تاريخياً، كان يتأجل خلال الاتفاقيات كلها حديث الأطراف عن الحلول النهائية إلى مراحل لاحقة، تلي التهدئة، مقابل التركيز على القضية العاجلة وهي وقف العدوان، وهذا بدا حاضراً في الاتفاقية المقترحة الحالية والردود عليها، فالتركيز على القضايا الآنية أكبر، ولا حديث عميقاً عن أي من مسائل الوضع النهائي أو "دولة فلسطينية" حقيقية كاملة الاعتراف أممياً، أو أي شكل أو تصور من تصورات الاستقلال الحقيقي وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، أو ما يتعلق بحلول فعلية لقضايا الوضع النهائي، وعلى رأسها قضية اللاجئين، وحق العودة، ومصير القدس والمقدسات، والأسرى، وفق ضمانات محددة وقوية.
وفي واقع العدوان الحالي على غزة يصعب على أحد الادعاء أنه يعلم كثيراً من التفاصيل والحيثيات عما درجت تسميته بـ"اليوم التالي"، وكيف يراه الفلسطينيون (المقاومة) بصورة حاسمة، أو حتى كيف يرسمه الاحتلال أو الوسطاء بصورة واضحة المعالم في "اتفاقية الإطار" نفسها، أو وفقاً لأي رؤى أخرى.
يمكن القول إن الشيء الوحيد المضمون حالياً هو استمرار العدوان الوحشي وانتقال الاحتلال إلى الإعلان عن حملته العسكرية على رفح، والتي يمكن أن يبدأها جيشه في قادم الأيام، مع ضوء صغير لاتفاق تهدئة محتمل مجهول الميعاد.
وبالعودة بدايةً إلى رد حماس على الاتفاقية، فاللافت هو أن الرد تضمن أسماء وسطاء عدة، بينهم بشكل واضح قطر ومصر و(روسيا)، مع تفاصيل للمراحل الثلاث لوقف إطلاق النار، وذلك على أمل وقف العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 4 أشهر على قطاع غزة نهائياً، والانتهاء فعلياً بوقف دائم له، وهدنة مضمونة من الوسطاء الكثر والمهمين، ويشار إلى أنها من المرات المهمة التي تُطلَب فيها وساطةُ روسيا بالاسم من قِبل المقاومة.
ويبدو جلياً أن كل الحديث في مقترح الاتفاق والرد عليه يدور بشكل رئيسي حول ما بعد 7 أكتوبر، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في غزة إلى ما قبل العدوان على الأقل، وإصلاح آثار الخراب الذي أحدثته آلة الحرب الصهيونية، وتعويض المتضررين والمنكوبين والمشردين الفلسطينيين في غزة بصورة نسبية، من حيث إعادة الإعمار وتوفير المساكن المؤقتة وشحنات المساعدات الغذائية والطبية وغيرها.
ويظهر أن مسألتي رفع الحصار كلياً والهدنة طويلة الأجل تكادان تكونان من بين الأهداف الرئيسية لرؤية المقاومة وحماس في هذه المرحلة، مع العمل على توفير الضمانات والوسطاء الأقوياء، ومزامنة ذلك مع حلول أو منجزات مرحلية جيدة في قضيَّتي القدس والأسرى، وقد يعد ذلك جيداً رغم أنه غير كافٍ سوى مرحلياً، إذ إن قضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية غير مطروحة بشكلها التقليدي المعهود حالياً في الرد، باستثناء شيء طفيف يتعلق بقضيتين من قضايا الوضع النهائي، وهما قضية تبادل الأسرى رغم عدم توفر ضمانات كبيرة حولها، لكنها تبدو صفقة جيدة فلسطينياً، بالرغم من كونها لا تتحدث بعد عن "الكل مقابل الكل" في حال أنجزت، فردّ حماس يتحدث عن تحرير 500 أسير فلسطيني من أصحاب المحكوميات العالية والمؤبدات، وهو الجانب المهم في حال حدثت الصفقة، ويتم تحريرهم من أصل 1500 أسير، وذلك مقابل الأسرى الأطفال والنساء لدى المقاومة، فضلاً عن اشتراط حماس تحسين مصلحة سجون الاحتلال ظروف الاعتقال لبقية الأسرى، ويبقى قبول إسرائيل وتوفر ضمانات أساساً لحدوث ذلك.
يشار هنا إلى أنه لا حديث عن صفقة تبادل مقابل الأسرى الجنود الإسرائيليين ورفاتهم لدى المقاومة حتى الآن، بل فقط عن المدنيين غير المقاتلين، إذ إن الجنود والضباط المأسورين من فرقة غزة بالتحديد هم نقطة القوة للمقاومة، والاحتفاظ بهم يعني ضماناً فلسطينياً لسير أي اتفاق مستقبلي، وربما هذه ضمانة قوية نحو أي حل نهائي كبير للقضية الفلسطينية، ولتحقيق صفقة "الكل مقابل الكل" لاحقاً.
وأما الاشتراط الفلسطيني الذي يمسّ وضعاً نهائياً آخر في القضية الفلسطينية، بُذل لأجله آلاف الشهداء والمعارك والعمليات الفلسطينية، فهو الاشتراط الذي يتعلق بالمسجد الأقصى، بأن تتم إعادة الوضع فيه إلى ما قبل العام 2002، وهو عام انتفاضة الأقصى واقتحام المسجد المبارك من قِبل رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إرئيل شارون، ومن ثم فتح الباب صهيونياً لبدء خطوات اقتحام الأقصى وتهويده وتقسيمه زمانياً ومكانياً بصورة مرئية للعيان، وإن تحقَّق هذا الشرط الذي قدَّمته المقاومة، فقد يُشكّل رادعاً جيداً لتخفيف الأطماع والمخاطر المحدقة بالقدس والمقدسات، شريطةَ توفّر ضمانات قوية، وهو ما يَصعُب التنبؤ به لاعتبار أن القدس لا تزال قلب الصراع بين أصحاب البلاد والاحتلال.
وبناءً على ما تقدّم لا يُفترض التفاؤل الكبير أو التشاؤم الكبير لدى الفلسطينيين حيال كل ذلك، فهي معركة شد وإرخاء حتى في فرض شروط انتهاء العدوان، ولا يمكن هنا إغفال وجود عناصر قوة مهمة، لكنها محدودة لدى الفلسطينيين، أبرزها ورقة الأسرى وصمود كل من المقاومة والشعب الفلسطينيين بطبيعة الحال، بالرغم من التعنُّت الإسرائيلي واستمرار المجزرة والدعم الأمريكي والغربي منقطع النظير.
لا يفترض بكل الأحوال الاستخفاف بمنجز المقاومة الفلسطينية، لا الآن ولا في مراحل سابقة أو تالية من النضال الفلسطيني، مهما كان نوع الصفقات التي ستُبرم، ولا بد من الوقوف دائماً معها، وكذلك مع خيارات وإمكانيات الناس على الأرض في الميدان، كلاهما معاً، لا الاستغناء عن خيار المقاومة كخيار فلسطيني ثابت في حال أن الأرض محتلة، وهو حق غير قابل للمساومة أو التجريم من أي أحد كان، وكذلك خيار الميل للتهدئة في مرحلةٍ ما، بهدف استثمار التضحيات وحماية الشعب الفلسطيني ووجوده، رغم أنها مسألة تتعلق بإجرام وعنف الاحتلال أكثر من علاقتها بنوعية العمل المقاوم، وذلك لتحقيق حل عادل وحقيقي على الأرض، وبالتالي يتم عند تلك النقطة رفد النضال والتضحيات بنتائج حقيقية مغاير كلياً ولا يشبه الوهم الذي بِيع للفلسطينيين في مرات سابقة، كما حدث في مدريد، وأوسلو، ومسار التسوية، فهذا المسار لا يعطي حلولاً، ومرفوض من معظم الشعب الفلسطيني.
لا يمكن في هذا السياق إغفال أن الشروط الفلسطينية المتناسبة مع تضحيات الشعب الفلسطيني في غزة تقع نسبياً رهينةَ الموقف الإسرائيلي والأمريكي، وتدارس الأخيرتين معاً لرد المقاومة.
يمكن القول إنه يصعب على الطرفين الفلسطيني صاحب التضحيات الكبيرة والواقع تحت الجريمة المستمرة، والإسرائيلي المتغطرس والغارق في غروره واستعلائه، والمصدوم لاهتزاز نظريته في التفوق على كل محيطه وعلى ضحاياه الفلسطينيين، التنازل لبعضهما بالنظر إلى ذلك، فهناك حالة من التحدي حاضرة، باعتبار أن المعركة الحالية وجودية بين الضحية والجلاد، وهي دليل أن المشروعين الفلسطيني التحرري، والصهيوني الاستعماري الإحلالي، لا يمكن أن يكونا موجودين فوق الأرض نفسها، ولا سيما الأخير، الذي يقوم على استئصال وطرد الفلسطينيين وعدم الاعتراف بوجودهم، أو حتى التنازل لرؤية أنهم بشر، وبالتالي فإن هذا الغرور والتعجرف والاستعلاء منقطع النظير، والرغبة غير المتوقفة عن الاضطهاد والقتل وإراقة الدماء الفلسطينية، المرتبطة بفكرة الصدمة من كيفية قدرة هذا الفلسطيني غير المرئي والهزيل، من وجهة نظر صهيونية، على أسر جنود إسرائيليين واقتحام مستوطنات ومنطقة جغرافية هي غلاف غزة، مساحتها أكبر من مساحة القطاع المحاصر، الذي خرج منه المقاتلون الفلسطينيون، تزامناً مع التضحيات الفلسطينية الهائلة التي لا تقبل سوى حل عادل يتناسب مع حجمها، يؤخران في الغالب تبلور اتفاق أو التوصل إليه في القريب العاجل.
ويلاحظ في الوقت ذاته أن الإعلام الإسرائيلي مازال يظهر إسرائيل على أنها في حالة حرب، وحتى أكثر وسائل الإعلام العبرية اعتدالاً، من بينها صحيفة هآرتس، التي يدور كل نشرها تحت عبارة "Israel at war"، مع تركيز أكبر على واقع الميدان وبعض التلميحات إلى اتفاقية الإطار، ورد نتنياهو ومجلس الحرب على حماس، والإشارة إلى مسألة العملية القادمة في رفح جنوب القطاع ضمن العناوين الرئيسية، وهو ما يعطي انطباعاً عن عدم تهيئة الأجواء بعد داخل إسرائيل، وأمام الرأي العام الإسرائيلي، نحو الانتقال لمرحلة تهدئة قريبة، مع إبقاء الجمهور مهيّأً لاحتمالية التفاوض بهدف التوصل لاتفاق وقف لإطلاق نار، وهو ما يشير إلى أن هناك وقتاً قبل حدوث أي اتفاق.
هذا الحال الإسرائيلي المترنح بين مواصلة العدوان والسير في خط التفاوض ووقف إطلاق النار يبدو هو حال الإدارة الأمريكية أيضاً، مع ميل أكثر من خلال التصريحات المعلنة لمسؤوليها، نحو الرغبة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، حيث صرَّح الرئيس الأمريكي جو بايدن، الخميس، في أعقاب ردّ حماس على اتفاقية الإطار، أن "رد إسرائيل تجاوز حدوده"، وبيَّن أن ردَّ حماس على الاتفاقية يتيح أجواءً إيجابية، يمكن أن يبنى عليها، ومجالاً للتفاوض، كما أكد بلينكن في وقت سابق على فكرة "التمسك الأمريكي بحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية"، رغم أن طريقة الطرح الأمريكية المتعلقة بفكرة الدولة الفلسطينية ضبابية وغير واضحة المعالم منذ عقود مضت، ولا تُفضي إلى خطوات عملية في قضايا الوضع النهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنها تعني عودةً مستقبلية إلى التهدئة والمسار السياسي.
وفي الوقت ذاته لم تُبدِ الإدارة الأمريكية رفضاً معلناً للحملة العسكرية الإسرائيلية المعلنة على رفح، بل ساقت العبارات السابقة نفسها، وهي ضرورة تقديم إسرائيل ضمانات بالتخفيف من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، والادعاء بعدم دعمها تلك الحملة. وبالنظر إلى ما تقدم، يظهر ترنّح الموقف الأمريكي حيال التوصل لاتفاق قريب، دون إمكانية التحقق إن كان هذا الترنح موقفاً مقصوداً بحد ذاته، بهدف المراوغة وحماية العملية الإسرائيلية المحتملة في رفح أم لا، كما يُظهر كلُّ ذلك الولاياتِ المتحدة على أنها تميل لوقف إطلاق النار في وقت ما، لكن ليس في القريب العاجل.
ووفقاً لما تقدم، يمكن القول إن الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، والمجال ممكن لحدوث اتفاق، رغم أن العدوان لا يبدو أنه سيتوقف قريباً. وبالتالي قد تكون مناقشة الحلول الدائمة للقضية الفلسطينية مبكرة جداً في الوقت الحالي، لكن لا يفترض تجاهل ذكرها أيضاً، وضرورة التذكير بها مع كل نقاش حول أي اتفاق يدور في الأفق، لأنه ليس المطلوب وقف العدوان فقط، بل ما هو أبعد، إذ إن الأصل في عملية "طوفان الأقصى" وما بعدها هو ألا تبقى القضية الفلسطينية، وحال الشعب الفلسطيني، راكداً جامداً منسياً كما كان قبلها.
وعلى أية حال، عند الحديث عن قضايا الوضع النهائي للقضية الفلسطينية كالدولة والقدس والعودة وقصية اللاجئين وحق تقرير المصير، لا يمكن الزعم بأنه يمكن المطالبة بحل نهائي مباشر ضمن أي اتفاق يعقب هذا العدوان، رغم التضحيات الكبيرة، لكن يمكن القول إنه من الضروري تجاوز مرحلة اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) ودفنها كلياً ضمن اتفاق جديد أو شكل جديد من التعاطي الفلسطيني مع العالم، ونظام تمثيل سياسي جديد تُنتجه هذه الجولة، لا يُسمح فيه بتجريم المقاومة، ولا يرضخ فيه الفلسطينيون لإسرائيل أو وسيط أمريكي وحيد منحاز لها كما جرى سابقاً، ولا يُملى عليهم ويتم استدراجهم نحو التخلص من فكرة المقاومة المسلحة، والمقاومة ككل كوسيلة لتحرير أرضهم وتحقيق حريتهم، وفي الوقت ذاته تُحمى أرواح الفلسطينيين من الاستباحة والإراقة غير المتوقفة، ويتم نيل شيء من الحقوق العادلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.