لم تكن المرة الأولى، التي يبدو فيها "طابور القراء"، في ساحة مدخل معرض القاهرة للكتاب 2024، طويلاً جداً لدرجة تبدو غير قابلة للتصديق، لكنها كانت المرة الأولى التي أصادف فيها واحداً بهذا الشكل، بدا الأمر غريباً جداً، لذا رحت أسأل الواقفين عن السر وراء صبرهم على وقت الانتظار الطويل، فجاءتني الإجابات أكثر غرابةً من مشهد الطابور!
ما سر أسامة المسلم؟
لغز كبير وراء الطابور الذي ضم عدة آلاف بدون مبالغة، توقعت أن هناك شيئاً مجانياً يتم توزيعه، وقادني الفضول لأعرف ما هنالك، هكذا توجهت لإحدى الفتيات في الطابور الذي كان غالبيته من الإناث: "لأجل من هذا الطابور الطويل؟" فأجابتني الفتاة التي لا أعرف اسمها بطريقة توحي بجهلي، وعلى طريقة "ظننت هذا واضحاً": "أسامة المسلم" فعدت لأسأل وأنا أشعر بالخجل: ومن هو أسامة المسلم، فنظرت لي الفتاة بنفاد صبر، وقالت: "كاتب سعودي".
كان لديّ أسئلة أكثر لكنني قدرت أن صدرها لن يتسع لأكثر من هذا، ولحسن حظي تحرك الطابور في تلك اللحظة، من جانب المنظمين، لذا توجهت بسؤالي لفتاة أخرى: "لماذا كل هذا الزحام؟"، فأفحمتني بالإجابة الأكثر تلقائية، وبنبرة واثقة جداً: "أصل الكاتب كاريزما شوية".
لم تشفِ تلك الإجابات كلها فضولي، لذا رحت أسأل، وكان شكلي أبله للصدق، وأنا أسال الواقفات في الطابور المتحرك واحدة بعد أخرى، عن موضوع الروايات، كم رواية كتب، ما سر الإعجاب، ما المميز في كتاباته حتى اكتملت الصورة لديّ أخيراً، لكن المعلومة الأكثر إثارة للاستغراب بالنسبة لي من كل ما سمعت، كانت عن مصدر معرفتهم بالكاتب، حيث أجابني أكثرهم "تيك توك".
لم أصدق حتى بحثت بنفسي عنه، فوجدته حاضراً فعلاً بشكل مكثف عبر المنصة المذكورة بأكثر من 4 ملايين متابع، يعتني بهم عبر "بثوث" مباشرة مستمرة، فضلاً عن آلاف من مقاطع الفيديو لمناقشات، وتعليقات وعروض لسلاسل كتبه، حسناً يبدو أن لـ "تيك توك" دوراً كبيراً الآن في تشكيل مفضلات القراء الشباب.
كان التزاحم غير مفهوم، حتى مع الطوابير الطويلة، حدثت إغماءات وبعض من تدافع فنادى منادٍ في ميكرفون المعرض: "تم وقف البيع".
في مقطع فيديو له، ظهر أسامة المسلم، عبر تيك توك، يتحدث عن انبهاره والمنظمين بحجم الإقبال الذي جاءه من كل المحافظات، وأنه مع ضغط التوقيع الذي أمطره لخمسة من كتبه، سمح المنظمون بالتوقيع على ثلاثة كتب فقط، تم تخفيضها لاحقاً لاثنين، ثم واحد فقط لا غير، ومع ذلك لم يكن الأمر قابلاً للسيطرة، لذا تم وقف البيع وكذلك إلغاء حفل التوقيع التالي الذي كان مقرراً يوم الإثنين 5 فبراير، وعوضاً عن ذلك، خرج المسلم ليعوض قرّاءه عن هذا كله بخصم قال إنه يصل إلى 80% لجمهور المعرض في آخر يومين.
أثار هذا كله فضولي نحو الكاتب، بحثت أكثر وعرفت أنه يتخصص في كتابة روايات الغموض، الكاتب الذي وُلد بمدينة الإحساء 5 مارس 1977 تخرج في قسم الأدب الإنجليزي وكتب العديد من رواياته بالإنجليزية فعلاً، قبل أن يبدأ في إصدار رواياته بالعربية، وهي عبارة عن عدد من السلاسل، أشهرها "خوف" ويصل إجمالي أعماله 63 إصداراً.
لن أنسى تعليق الفتاة الأخيرة في الصف، والتي كانت متحمسة للغاية، ذكرني مشهدها، بشكلي حين كنت أقف في الطابور بانتظار توقيع دكتور أحمد خالد توفيق -مؤلف السلاسل الشهيرة "ما وراء الطبيعة" و"فانتازيا" وغيرهما- وكان وجوده يومها عام 2007 هو السبب الذي شجعني على الذهاب إلى معرض الكتاب لأول مرة في حياتي، وجدتني أسألها: "هل قرأتي لدكتور أحمد خالد توفيق؟". فأجابت: "نعم لكن ليس كل شيء"، فسألتها: "وما الفارق بين هذه الكتابة وتلك؟"، فقالت: "دكتور أحمد عادة ما يناقش قضية أو يمنح معلومات جادة وسط السطور، أما كتابات المسلم فهي أكثر خفة وبساطة".
الإجابة عند "أحمد يونس"
الطوابير لأجل "خوف" أسامة المسلم، لم تختلف كثيراً عن الطوابير لأجل توقيع المذيع المصري أحمد يونس وسلسلته "نادر فودة" التي تنتمي إلى أدب الرعب، ذلك هو المزاج إذن؟
نادر فودة -بطل السلسلة- هو صحفي استقصائي مهووس بعالم ما وراء الطبيعة والظواهر الخارقة، بنيت شخصيته بنسبة ٩٩% على أحمد يونس نفسه.
حسناً تبدو الإجابة الآن واضحة إلى حد كبير، مزاج الجيل زد يتجه بشكل واضح نحو أدب الرعب والأشباح، وأيضاً إلى الخيال والعوالم البعيدة عن أرض الواقع، ربما ولهذا السبب بالذات اشتهرت أيضاً الكاتبة الجزائرية التي لا يعرف أحد عنها سوى اسم مستعار هو سارة ريفنس أو الكاتبة الغامضة، الشابة التي حظيت بلقب الكاتبة الأكثر قراءة نهاية عام 2023 في كل من الجزائر وفرنسا، بواسطة 3 من رواياتها، حيث تخطت روايتها الأولى "الرهينة" حاجز الـ 9 ملايين قراءة على منصة "واتباد" وترجمت إلى 9 لغات، الشابة التي تخطت مبيعاتها كتاب الأمر هاري، حصدت أرباحاً قدرها 3.5 مليون يورو في فرنسا فقط، منحني هذا إجابة حول سبب إقبال الشباب على كاتب دون الآخر، الأجيال الجديدة تميل إلى عالم الرعب والتشويق أكثر مما سواه!
خلطة كنزي مدبولي
في الوقت الذي كتبت فيه مؤلفة شابة تدعى تيسير النجار، منشوراً لها عبر صفحتها الشخصية بعنوان "لا أحد يسمع صوتي" تشكو عدم ظهور مجموعتها القصصية على أرفف المعرض، وأن أحداً لم يرها أو ينتبه لها، هي التي نالت شرف النشر من أكبر كيان ثقافي رسمي في مصر، الهيئة العامة للكتاب، لم يتكلف أحد من القائمين على الهيئة عناء إخراج كتابها من "الكراتين" ما أصاب أحلامها حول الكتابة في مقتل، تحولت "انفولونسر" شهيرة تدعى كنزي مدبولي إلى "تريند" عبر موقع "إكس"، بسبب التزاحم الشديد عليها خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب من أجل توقيع روايتها "فرصة من ذهب"، حيث راح الناس يتداولون صور الطوابير الطويلة، ومقاطع من كتابة بدت "ركيكة" إلى حد كبير، وسط حالة من الذهول، حول السر الذي يدفع القراء لشراء كتاب معين ويثنيهم عن شراء كتاب آخر.
المعيار ليس جودة الكتابة، ولكن "شهرة" الكاتب، وعدد متابعيه، ربما لهذا كان السؤال الأبرز والمتواصل: "مين دي؟" وهو سؤال جاءت إجابته باقتضاب ووضوح شديد على الغلاف الخلفي لروايتها: "كنزي مدبولي، صانعة محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، من مواليد الإسكندرية، خريجة كلية إعلام من الأكاديمية العربية".
هكذا حيث لم يبد أن الأمر بحاجة لأكثر من هذا، يقال إن كنزي باعت عدداً ضخماً من روايتها، التي حمل بعضها شارة "الطبعة 26″، الشابة التي يتابعها 3.3 مليون متابع عبر إنستجرام و3.8 مليون متابع على فيسبوك فضلاً عن بقية المنصات حققت ما عجز عنه كتاب كبار، ما منحني فكرة جيدة أنه، في ذلك العصر بالذات، ربما يجب أن تكون جمهورك أولاً قبل أن تشرع في الكتابة.. ولكن السؤال الأكثر رعباً من كل الروايات السالف ذكرها "كيف" و"ما الثمن"!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.