عرف العالم الإسلامي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عدة تغيرات، خاصة في الجانبين السياسي والاجتماعي، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا التغير، وبشكل خاص الحملات الاستعمارية التي قادتها البلدان الإمبريالية، حيث إن هذه الحملات لم تكن مؤثرة من جانبها العسكري فقط، بل ربما كان الأقوى تأثيراً فيها هو الجانب الفكري، مما ولد حراكاً فكرياً داخل العالم الإسلامي، حيث إن تلك الهجمات الاستعمارية كانت بمثابة الصدمة الحضارية للمسلمين، ليبدأ التفكير في مسألة ستستمر لزمن طويل، وهو مسألة التقدم والتخلف، ويبدأ البحث عن أسباب هذا التخلف، هل هو اجتماعي، اقتصادي، سياسي، أو ديني، وفي محاولة للإجابة عن هذه الإشكالية، والتي ستناقش فيما بعد تحت اسم الحداثة والإسلام، كان هناك ثلاثة أطراف ربما، أو ثلاث أطروحات، هناك أطروحة التغريب، وهي التي قادها مجموعة من المفكرين الذين تشبعوا بالفكر القومي، أو غيرهم ممن تعاطف معهم، وهناك أطروحة تقليدية، وتزعم هذه الأطروحة المتشبثون بالتراث كما هو، حيث إنهم رفضوا أي تغيير وفضلوا المقاومة، لكن بين هؤلاء وأولئك كان هناك فريق حاول أن ينهج نهجاً وسطاً، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، حيث رأى هؤلاء أن التراث الإسلامي ليس هو سبب تخلف المجتمع كما روج لذلك بعض المستشرقين، ولكن الظروف التاريخية، وظهور بعض الخلافات الفكرية، هي التي أدت إلى الجمود الذي أصاب المسلمين، ومن ثم فضل هؤلاء أن يبحثوا في الإسلام عن ما هو كوني ومتعالٍ على الزمان والمكان، وتجاوز ما هو ظرفي، يمكن تصنيف مجموعة من المفكرين في هذا المنحى، لكني هنا سأقتصر على أطروحة محمد إقبال، وسأناقش هذا الموضوع من خلال ثلاث إشكاليات، من هو محمد إقبال وما هي الظروف الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في تكوينه الفكري؟ ما هي أطروحته في الاجتهاد؟ ثم ما هي أبعاد هذه الأطروحة؟
المحور الأول.. محمد إقبال السياق والشخصية العلمية
ولد محمد إقبال في ولاية سيالكوت والواقعة حالياً في باكستان، سنة 1877م، حيث كانت الفترة التي كبر وتربى فيها قد بدأت تظهر فيها عدة انتقادات للسياسات الموالية لرابطة كل مسلمي الهند، كما أن الهند المسلمة آنذاك كانت تشهد تفتت الإمبراطورية العثمانية، حيث كان ينظر إلى هذا الأمر وكأنه عداء صريح للإسلام، كما أنه أُوّل أيضاً على أنه عداء غربي للإسلام، حيث إن تمدد الإمبراطورية البريطانية في الشرق جاء على حساب تفتت الإمبراطورية العثمانية؛ مما جعل المسلمين الموجودين هناك يتخوفون من محاولة الاضطهاد من باقي القوميات الأخرى.
درس إقبال في مدرسة الإرسالية الاسكتلندية، حيث تأثر بأحد أساتذة الأدب الفارسي وهو مولوي مير حسن، بعد ذلك سينتقل إقبال لإتمام دراسته الجامعية بالكلية الحكومة في لاهور، حيث درس الأدب الإنجليزي واللغة العربية والفلسفة، وهناك سيلتقي بأحد أكبر المستشرقين الذين كانوا يدرسون هناك، وهو السير توماس أرنولد، حيث تأثر به إقبال بشكل كبير، حتى إنه أهدى له أطروحته للدكتوراه فيما بعد، في عام 1905م سينشر إقبال كتابه علم الاقتصاد باللغة الأوردية.
بعد ذلك وبالضبط في عام 1905م سينتقل لأوروبا ليكمل دراسته في لندن، حيث قام بتسجيل نفسه بكلية ترينتي بجامعة كامبردج متبعاً نصيحة السير توماس أرنولد، وهناك درس الفلسفة على يد "جي إم إي ماكتاريجت"، وفي ذلك الوقت قدم أطروحته للدكتوراه بجامعة ميونخ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في موضوع تطور الميتافيزيقا الفارسية.
بعد عودته من أوروبا سيعمل محامياً ومدرساً في الجامعة الحكومية في لاهور، وكانت أولى المحاضرات الذي قدمها إقبال محاضرة تحمل عنوان "المثال السياسي في الإسلام"، كما أنه نشر ورقة بحثية بعنوان "الفكر السياسي في الإسلام" ستصبح هذه الورقة البحثية بمثابة المؤسس لأعماله الفكرية فيما بعد، خاصة أنه سينقطع عن التدريس ويكرِّس حياته للعمل السياسي والكتابة والنشر، حيث كان كاتباً ثرياً، كتب في الشعر والفلسفة، إذ كان يسعى للتعبير عن أفكاره بمختلف الوسائل المتاحة له آنذاك.
كان موقف إقبال واضحاً منذ البداية، حيث إنه لم يكن يؤثر الشرق على الغرب، ولا العكس أيضاً، رغم أنه ولد لأسرة إسلامية، وتلقى تعليمه الأول في بيئة إسلامية، إلا أن تكوينه المزدوج جعله يميل إلى التوازن أكثر، حيث إنه لم يكن مقتنعاً بالحضارة الغربية بمجملها، بل عمل على بيان أوجه القصور فيها، وخاصة الجانب الاستعماري، حيث إنه كان شاهداً على مرحلة عرفت فيها بلاده استعماراً من قبل الإنجليز، كما أنه لم يكن منتصراً للثقافة الإسلامية كما هي، بل كان يدعو للتجديد، حيث كان يرى أن هناك قصوراً ما، هو الذي أدى لهذا التقهقر الذي أصاب المسلمين.
رحلة إقبال إلى أوروبا وتلقيه للتعليم في إحدى الجامعات الإنجليزية، جعلا نقده للحضارة الغربية يختلف عن النقد الذي كان يوجَّه لها من قبل مفكري الهند المسلمين، بل نقده كان من داخل هذه الحضارة نفسها؛ لأنه لم يقدم نقداً إسلامياً للحضارة الغربية، بل كان يرى فيها أنها لم تحترم المبادئ التي نادت بها، وهذا ما أدى بها إلى إفلاس أخلاقي كما يرى، لكن في المقابل كان معجباً بالروح الدينامية لهذه الحضارة، كما أنه كان معجباً بالتقدم التكنولوجي الذي استطاعت أن تحققه، غير أن هذا لم يثنِه أيضاً عن تقديم نقد لاذع لها، وخاصة لطرق توزيع الثروة، والنظام الطبقي فيها.
لكن هذا أيضاً لم يثنِه عن تقديم نقد للفكر الاشتراكي أيضاً، على أساس أنه فكر يقود إلى الإلحاد وإنكار وجود الإله، لكنه أيضاً في المقابل كان يرى أن الثقافة الإسلامية في عصره تشهد جموداً وركوداً، ويرى أن هذا هو السبب الذي أدى إلى التخلف السياسي الذي يشهده المسلمون، حيث إن الذي كان يهمه هو هذا الجانب، أي التقهقر السياسي الذي يشهده المسلمون، لكنه كان يرى أن هذا الأمر يتعارض مع طبيعة الدين الإسلامي، حيث إنه رأى أن روح الحضارة الإسلامية تأبى هذا الأمر، وهو ما سيدعوه إلى بلورة جواب خاص، عن مسألة التقدم والتخلف في العالم الإسلامي.
كان إقبال معجباً بفلاسفة النهضة الأوروبية، بدءاً من العقلانيين الفرنسيين مروراً بالواقعيين الإنجليز حتى المثاليين الألمان، وهذا ما جعله يحاول تقديم قراءة للتراث الإسلامي من منظور مختلف، وإن كان ما ستفضي إليه قناعته هو أقرب للمثالية الألمانية منه إلى باقي أنماط التفلسف الأخرى، حيث إن محور التقريب بين الشرق والغرب سيظل من أهم اهتماماته.
جوهر أطروحة إقبال يقوم على رفض النظرة الأفلاطونية للعالم فيما يخص الموجودات، أي الأصل في الأشياء الحركة وليس السكون كما كان يرى ذلك أفلاطون، وكأن إقبال يميل إلى التلميذ النجيب لأفلاطون وهو أرسطو أكثر من ميله إلى شيخه أفلاطون، ولهذا سنجده يجعل من بين أسباب تخلف المسلمين طغيان الروحانية، وكأن إقبال كان محكوماً بواقعه السياسي، حيث كان واقعه يموج ويفور بالأفكار والتغيرات المتسارعة التي كانت تحدث في العالم.
يُتبع
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.