على اعتبار أن التوازنات الدولية والعلاقات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة والمتبادلة، فإن النفط يعد من أهم الوسائل التي تستعملها هذه الدول في الضغط على الدول الأخرى في سبيل حماية مصالحها وخدمة أجندتها، سواء السياسية أم الأيديولوجية أم الدينية. ولنا العديد من الأمثلة على ذلك، منها العقوبات التي سلطتها الولايات المتحدة الأمريكية على فنزويلا، صاحبة أكبر مخزون نفطي في العالم، ومنعها من تصدير الذهب الأسود، وذلك بسبب توجه حكومتها الشيوعي والمضاد للسياسة الأمريكية الإمبريالية.
والشيء نفسه نجده في منطقة الشرق الأوسط، فأغلب الحروب كانت بسبب النفط. من ذلك الاجتياح الأمريكي على العراق سنة 2003 بقيادة جورج بوش الابن، بذريعة امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، لكن تبين فيما بعد أن السبب الرئيسي للحرب هو السطو على ثروات ذلك البلد. كذلك الأمر بالنسبة للحرب على سوريا، فإلى يومنا هذا تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية على مناطق الشمال السوري الغنية بالنفط والغاز.
فالعالم لا يعرف سوى لغة المصالح وقبلها لغة القوة، والعرب لديهم من الإمكانات والثروات والفرص، ما يجعلهم أصحاب مصالح وقوة ضغط لا يستهان بها في أسواق الطاقة والمعابر الدولية، ومنها هرمز وباب المندب وقناة السويس.
فوفقاً للأرقام، فإنّ إنتاج العرب من النفط يبلغ نحو 30% من إنتاج منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" والبالغ نحو 100 مليون برميل.
ولدى العرب تأثير قوي في المؤسسات الدولية المنظمة لأسواق الطاقة حول العالم مثل "أوبك" أو تحالف "أوبك+"، كما يمتلك العرب أكثر من 57% من الاحتياطي العالمي للنفط الخام، وأكثر من 26.5% من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي.
فوفقاً لتقرير صادر عن معهد الطاقة في نسخته الـ72 تحت عنوان "المراجعة الإحصائية لطاقة العالم"، تصدرت منطقة الشرق الأوسط الحصة الأعلى من الإنتاج العالمي للنفط في 2022، بمقدار 32.7%، حيث تصدرت السعودية المرتبة الأولى في حجم الإنتاج من بين الدول العربية، ليصل حجم إنتاجها للنفط لـ573 مليون برميل في 2022، لتليها العراق بمقدار 221 مليون برميل ومن ثم الإمارات بـ181 مليون برميل.
هذه التخمة الإنتاجية على مستوى المواد الطاقية، تقابلها قاعدة واسعة للطلب خاصة من قبل الدول الصناعية الكبرى. فباستثناء بعض الدول الغربية التي لها ثروات طبيعية بحكم مواقعها الجغرافية، كروسيا التي تعد من أهم المنتجين الدوليين للنفط والغاز، كذلك الدنمارك التي تمتلك مخزونات بترولية مهمة في بحر الشمال، والولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم باستخراج نفط "الشيست" أو ما اصطلح على تسميته بالنفط الصخري، فإن أغلب الدول الصناعية الأخرى ليس لها نفس الإمكانيات والثروات كفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، والصين، والبرازيل… وبالتالي فهي في حاجة ماسة ومستمرة لاستيراد الطاقة من الدول النامية عموماً، والعربية خصوصاً.
في ظل الوضع الإنساني المتأزم الذي يشهده قطاع غزة، تتصاعد الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين العزل، متجلية في تدمير المساجد والكنائس ومدارس الأونروا، تمتد الانتهاكات لتشمل استهداف منازل المواطنين، وقنص الصحفيين، والقتل الممنهج للنساء والأطفال والشيوخ، إلى جانب منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المصابين، واستهداف الطواقم الطبية، وتجريف خيام اللاجئين، ودفن المصابين أحياءً تحت الأنقاض بالجرافات والآليات الإسرائيلية.
على الرغم من هذه الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان، والمجازر اليومية التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، والقتل اليومي للفلسطينيين في الضفة الغربية، خاصة في مخيمي جنين وطولكرم، واعتقال الأفراد جماعياً دون محاكمة أو احترام لحقوق الدفاع، يبقى رد الفعل العربي دون المستوى المأمول.
في هذا السياق، يبرز سلاح المقاطعة الاقتصادية كاستراتيجية فعّالة للضغط على إسرائيل وحلفائها. تعتبر مقاطعة البضائع الإسرائيلية وقطع إمدادات النفط من الوسائل الفاعلة في هذا الإطار. تاريخياً، كان لهذه السياسة تأثير شديد، حيث فرضت عدة دول عربية حظراً نفطياً على الولايات المتحدة، وهولندا، والدنمارك في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1973، رداً على دعمهم العسكري لإسرائيل خلال حرب أكتوبر. ورغم أن الإنتاج العالمي للنفط لم ينخفض سوى بنسبة 5%، إلا أن الأسعار شهدت ارتفاعاً حاداً بمقدار 4 أضعاف. كان من المتوقع أن تعود الأسعار إلى مستوياتها السابقة بعد انتهاء المقاطعة، والتي استمرت بحدود شهرين، لكن الأسعار بقيت في مستوياتها العالية لعدّة سنوات، ثم ارتفعت مرة أخرى مع إضراب عمال النفط الإيرانيين عام 1978، ثم الثورة الإيرانية في بداية عام 1979.
وكان الهدف المعلن من المقاطعة النفطية الضغط على الولايات المتحدة لتبنّي سياسة متوازنة في الشرق الأوسط، ومحاولة إقناع المجتمع الدولي بضرورة تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 242، وإجبار الاحتلال الإسرائيلي على التراجع إلى حدود ما قبل 1967.
واليوم، على الرغم من اكتشاف النفط في مناطق كثيرة في العالم تنافس النفط العربي، وتراجع حصتها من السوق الدولية من حوالي 70% إلى تقريباً 23%، إلا أن ورقة الذهب الأسود كانت ولا تزال تلعب دوراً محورياً في التجارة العالمية والعلاقات الدولية. خاصة أن حجم الاحتياطيات النفطية العربية يقدر بحوالي 645 مليار برميل، أي ما يعادل حوالي 62.1% من الاحتياطي العالمي البالغ أكثر من تريليون برميل، حيث تكفي لمدة تزيد علي 85 عاماً إذا ما استمر الإنتاج على مستوياته الراهنة مقارنة بحوالي 10 سنوات فقط في الولايات المتحدة الأمريكية أو حوالي 21 سنة في روسيا، وهو معدل مرتفع.
خاتمة
في ظل التحولات الجيوستراتيجية المعاصرة وظهور منتجين جدد للنفط، لا تزال الإمكانات النفطية العربية تمثل عاملاً حاسماً في المعادلة الدولية، معتمدة على مخزونها الهائل. ومع استمرارية هذه الأهمية، يظل النفط العربي ليس فقط ركيزة قوية للتأثير الاقتصادي والسياسي، بل أيضاً أداة فعالة في ممارسة الضغط على الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، مانحاً الفرصة لصياغة مسارات جديدة في العلاقات الدولية، وتعزيز المواقف الداعمة لفلسطين وللقضايا العربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.