لقد كشفت التحولات الأخيرة في المواقف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حول مسألة حل الدولتين، توافقاً مع نهج نتنياهو، المتمثل في الرغبة بإطالة النزاع، ورفض حل الدولتين، والتوسع الاستيطاني وضم الأراضي الفلسطينية. هذا التوافق جاء على خلفية تذبذب موقف الإدارة الأمريكية، ففي الوقت الذي يشير فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى حل الدولتين كحل أمثل، يكذب ذلك ويرفضه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ إذ صرَّح بأن إسرائيل لن تتخلى عن السيطرة الأمنية الكاملة على الضفة الغربية، كما عبَّر صراحةً بأنّه يعارض قيام أي دولة فلسطينية لا تضمن أمن إسرائيل.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن، ونائبته كامالا هاريس، إعداد رؤية مُحددة لمرحلة ما بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، وكانت تتضمن تفاصيل الرؤية الأمريكية للحل في فلسطين، التي تم تقديمها بواسطة كامالا هاريس خلال مشاركتها في مؤتمر COP 28، وتشدد على إعادة توحيد الشعب الفلسطيني تحت حكومة واحدة في غزة والضفة الغربية. تتلخص هذه الرؤية في خمسة مبادئ: منع التهجير القسري للفلسطينيين، ومنع إعادة احتلال غزة، ورفع الحصار، وعدم تقليص الأراضي، ومنع استخدام غزة كمنصة لهجمات ضد إسرائيل، لكن حكومة نتنياهو عارضت هذه الخطة بشكل واضح، مؤكدةً صعوبة قبول إسرائيل بهذه الشروط.
إذ يتعنَّت قادة الاحتلال الإسرائيلي ويرفضون فكرة قيام أي كيان حاكم واحد لكل من الضفة وقطاع غزة، لذلك نرى إسرائيل تسعى وتعمل بشكل ممنهج على التهجير القسري للفلسطينيين من شمال القطاع إلى جنوبه، ومن الجنوب إلى أقصى الجنوب إلى الحدود المصرية. وبالنظر في طول مدة الحرب نرى أن نتنياهو ووزراءه من اليمين المتطرف يرغبون في أن يُخضعوا غزةَ لحكم إسرائيل (أي إعادة احتلال) أو إخضاعها من الناحية الأمنية لإسرئيل، وهذا يعني وصايةً أمنيةً وسياسيةً واقتصاديةً تمنع تشكيل أي كيان فلسطيني مستقبلي، لكن في الآونة الأخيرة، ومع استمرار فشل قوات الاحتلال في تحقيق أي نجاح عسكري في غزة، بدأت إسرائيل تحضِّر لتأسيس منطقة عازلة وضخمة من حيث المساحة، وهذا يعني استمرار في اقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية وضمّها إلى إسرائيل.
إن الوضع الحالي يعكس فشل المجتمع الدولي والأطراف المعنية في تحقيق تقدم ملموس نحو حل الدولتين. ورغم الجهود الدبلوماسية والمبادرات السياسية، تبقى الأفق المستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة محفوفة بالتحديات والعقبات.
الديناميكيات السياسية داخل إسرائيل تُعد من العوامل الجوهرية التي أعاقت تحقيق حل الدولتين، في هذا الإطار يبرز دائماً دور بنيامين نتنياهو وحزب الليكود، كعناصر محورية لهذا التعنت أمام أية مفاوضات سلام مع الفلسطينيين.
وما يزيد الوضع تعقيداً في إحداث أي تقدم بحل الدولتين هو وضع نتنياهو الحالي؛ إذ تتجه أصابع الاتهام من قِبل العديد من الإسرائيليين نحوه، محمّلين إياه مسؤولية "الكارثة الأمنية"، وهناك تطلع قوي لرؤيته خارج دائرة السلطة، وهنا يجب النظر إلى أن مناورات نتنياهو السياسية، وخاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، غالباً ما تكون مدفوعة بأهداف شخصية، وليست التزاماً بحل سلمي دائم. ولذلك يأتي رفضه لحل الدولتين، أو حتى رفضه وقف الحرب على غزة في سياق الاستمرار في السلطة وتأجيل عملية ملاحقته القضائية، سواء بقضايا فساد سابقة أو من خلال فتح تحقيقات أمنية وقضائية حول فشله في منع هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023.
يمكن وصف الوضع السياسي في إسرائيل الآن بأنه ينتقل إلى ما يسميه البعض "فوضى- قراطية". ويفسر ذلك همجية الاحتلال الإسرائيلي في سياسته وممارسته، والتي قد بدأت في الارتفاع قبل معركة طوفان الأقصى، فقد ازدادت عمليات الضم الانتهازي، واحتدّت انتهاكات قوات الأمن للفلسطينيين في الضفة الغربية، بينما تم استخدام القوة المفرطة وقتل الكثير من الفلسطينيين إثر ذلك، بل تم تسليح ومنح المزيد من الحصانة للمستوطنين. كل ذلك يعكس عقليةَ الاحتلال الإسرائيلي، التي لا ترى أن قيام دولة فلسطينية ما هو إلا تهديد لبطشها، لذلك تركز إسرائيل دائماً على وضع التدابير الأمنية واستخدام القوة أكثر، وتوسيع المستوطنات في منطقة الضفة الغربية والقدس، واستخدام فرض الواقع بالقوة كبديل لمفاوضات السلام.
على المستوى الدولي يسود القلق بشأن معارضة الاحتلال الإسرائيلي لمفهوم حل الدولتين. قادة العالم، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وجَّهوا انتقاداتٍ لهذا الموقف، باعتباره غير مقبول، ويقف عقبةً تؤخر تحقيقَ السلام وتعرقل الجهود الرامية لإنهاء الحرب.
في ظل فشل الخطة الأمريكية المقترحة للسلام، تسعى الإدارة الأمريكية لإعادة تعويم نتنياهو في المشهد السياسي. هذا يتم من خلال تكثيف جهود البيت الأبيض للدفع نحو تحقيق صفقة بين السعودية وإسرائيل، التي تعتبرها وسيلةً استراتيجية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، على أن يتم من خلالها ربط مستقبل قطاع غزة بهذا الاتفاق المحتمل، بمعنى آخر تحاول الولايات المتحدة أن تروّج لإمكانية التطبيع السعودي-الإسرائيلي، مقابل قبولٍ إسرائيليٍّ بحل الدولتين.
خاتمة
ترفض إسرائيل أي حلول لأي سلام يضمن للفلسطينيين حقوقهم، رغم أنها في موقف شديد الصعوبة داخلياً وخارجياً، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، لذا يجب أن تتحرك الجهود العربية بشكل أكثر فاعلية من ذلك، فلو استثمرت الدول العربية الفاعلة في الانتصارات اليومية التي تحققها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ولو استثمرت نفوذها الواسع في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية، لَكان من الممكن أن تزيد الضغط على إسرائيل لوقف الحرب أولاً، ولبحث حلول مستدامة في الشأن الفلسطيني ثانياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.