كان وقع قرار محكمة العدل الدولية اليوم، الجمعة 26 يناير/كانون الثاني، أكبر وأقوى صدىً من قيادة جرافة دي-9 لهدم الموقف الغربي الداعم لحرب إسرائيل الخاطفة على غزة، والتي تتواصل منذ قرابة الأربعة أشهر.
إذ نص القرار على أن ما يجري في غزة ليس حرباً تستهدف تعجيز جماعة مسلحة مُعادية، بل عملية تستهدف تعجيز شعبٍ وأمة. وليس هناك حكم قانوني أكثر مصيرية من هذا القرار في تاريخ الصراع حتى الآن، وطوال القرن الجاري بكل تأكيد.
حيث أعاد هذا الحكم التأكيد على أخلاقية، وحياد، ومكانة القانون الدولي. كما أن الإفلات من العقاب، الذي حظيت به إسرائيل من كبار داعميها ومزوديها بالأسلحة، ستظهر حقيقته بفضل هذا الحكم: وهي أنه مجرد رخصة للقتل.
ولن تكون هناك فجوة أكبر من تلك الموجودة في موقف الإدارة الأمريكية، التي زعمت زوراً أن "الدبلوماسية قد عادت"، ثم مضت للدفاع عن -وتدعيم- أكثر حملات القصف دمويةً في التاريخ الحديث لهذا الصراع.
دخلت إسرائيل اليوم قفص الاتهام بتهمة الإبادة الجماعية. وستكون ملزمة برفع تقرير إلى المحكمة في غضون شهر حتى تراجعه جهة الادعاء الجنوب إفريقية، على أن يحتوي التقرير على التدابير التي اتخذتها للحيلولة دون التحريض على الإبادة الجماعية أو ارتكاب الإبادة نفسها، مع السماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة.
صحيحٌ أنه ستكون هناك خيبة أمل؛ لأن محكمة العدل الدولية لم تطالب بوقف فوري لإطلاق النار. لكن المحكمة فعلت ذلك على أسس قانونية مفادها أن طرفاً واحداً فقط في هذا الصراع هو المعترف به كدولة.
ولا يحتاج الفلسطينيون إلى قرار محكمة للتصديق على معاناتهم. إذ كانوا يتوقعون إجراءً من شأنه إنهاء هذه الإبادة الجماعية، بدلاً من رمي الكرة في ملعب إسرائيل للتصرف بطريقةٍ يعلم الجميع أنها لن تفعلها. لكن إسرائيل ألمحت بالفعل إلى نيتها تجاهل قرار محكمة العدل الدولية، ولهذا لا يجب على أحد التطلع إلى إسرائيل من أجل تغيير هذا الوضع.
وتتمثل نقطة القوة الوحيدة لقرار محكمة العدل الدولية في تغيير السياسة الغربية، التي تسمح لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالتصرف وكأن واشنطن عاجزة عن وقف المذابح اليومية. بينما من الواضح أنها ليست كذلك.
إلحاح واضح
يمنح حكم كهذا قوةً كانت مطلوبةً بشدة للعديد من الدعاوى القضائية التي ترتبط باتهامات جرائم حرب أصغر نطاقاً، ولكنها بالقدر نفسه من الأهمية، في جميع أنحاء العالم. وإذا كان تصنيف الفصل العنصري يمثل ضربة قوية لمحاولات إسرائيل من أجل تثبيت أقدامها كديمقراطية غربية عادية، فلا شك أن إضافة شعار الإبادة الجماعية سيكون المسمار الأخير في ذلك النعش.
ومن الواضح أن المحكمة لم تصدق دفاع إسرائيل. كما اعتمدت رئيسة محكمة العدل الدولية جوان دونوغو على أدلة جنوب إفريقيا بشكلٍ كبير أثناء النطق بالحكم. لهذا يحق لفريق جنوب أفريقيا أن يدعي النصر.
ويبدو مدى إلحاح هذا الحكم واضحاً للعيان أمام الجميع. إذ يواجه أكثر من 750 ألف شخصٍ "مجاعةً كارثية" في غزة بحسب الأمم المتحدة. بينما يؤدي نقص المياه النظيفة إلى انتشار الأمراض التي تنقلها المياه والتي تُعد من الأسباب الرئيسية لوفاة الأطفال، ومنها الإسهال.
وهناك بالفعل 158 ألف حالة، كما حذرت الأمم المتحدة من احتمالية وفاة آلاف الأطفال بسبب الإسهال قبل أن يقتلهم الجوع.
ولا يعمل حالياً سوى 15 من أصل 97 مخبزاً داخل غزة بعد مضيّ ثلاثة أشهر ونصف من القصف الإسرائيلي. وفي وسط غزة، أصبح نقص القمح حاداً لدرجة أن الناس يخلطون طعام الطيور وأعلاف الحيوانات مع عجين الخبز.
وفي الوقت ذاته، تعمل جرافات الجيش جاهدةً من أجل تجريف أكثر بساتين وحقول غزة خصوبة. ويتمثل الهدف المباشر في تأسيس منطقةٍ أمنية، لكن الهدف الاستراتيجي هو ضمان عدم قدرة المنطقة على إطعام نفسها من جديد.
وبينما يلتقط وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون الصور في الدوحة وهو يدفع طبليات المساعدات داخل الطائرة المتجهة إلى مصر، يبذل الإسرائيليون على الجانب المقابل من سلسلة التوريد قصارى جهدهم لتحويل سيل المساعدات إلى قطرات.
إذ تنتظر الشاحنات لعدة أسابيع من أجل دخول غزة. ويمكن أن يجري تفريغ الشاحنة وتحميلها عدة مرات. وفي حال العثور على عناصر محظورة في الحمولة، فسوف يتعيّن على الشاحنة العودة إلى آخر الطابور وبدء العملية برمتها من جديد. وتفيد التقارير بأن إسرائيل ترفض دخول أغراضٍ منها المنتجات الصحية النسائية، وأدوات اختبار المياه، ومعقم اليدين.
وعندما تمر المساعدات الطارئة إلى داخل القطاع، يتعرض الجوعى للاستهداف بواسطة الدبابات والقناصة. وجرى تسجيل عدد كبير من الوقائع التي تثبت ذلك الآن، لهذا لم يعد بالإمكان اعتبار الأمر عرضياً.
حيث قال مراسل للموقع البريطاني في غزة: "يصطف الناس في المنطقة للحصول على المواد نظراً لعدم وجود فرق تساعد في التوزيع. وهناك أعداد كبير من البشر هناك.. لهذا يسقط العشرات قتلى عند وقوع هجوم إسرائيلي".
وتعرضت طوابير المدنيين لهجوم من القوات الإسرائيلية عند دوار الكويت بالقرب من منطقة صلاح الدين مؤخراً، ما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة العشرات. وفي يوم الخميس، 25 يناير/كانون الثاني، قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 20 فلسطينياً وأصابت 180 آخرين أثناء انتظارهم للمساعدات الإنسانية في مدينة غزة.
ضحكٌ وإطلاق نار
قليلاً ما تكون هذه الأحداث عرضيةً أو ناتجةً عن ضباب الحرب. بل هي أحداث محسوبة ومدروسة، وتحدث عن قصد.
وفي مواجهة رفض مصر السماح بنزوحٍ جماعي للفلسطينيين إلى سيناء، كلّف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزير شؤونه الاستراتيجية رون ديرمر بوضع خطةٍ لـ"تخفيف" سكان غزة، وذلك عن طريق فتح المجال أمام "هروب جماعي" للفلسطينيين إلى أوروبا وإفريقيا عبر البحر.
وكانت صحيفة Israel Hayom أول من كشف الستار عن الخطة، التي جرى تداولها على نطاقٍ ضيق نظراً "لإثارتها الواضحة للجدل". وتجادل الخطة بأن ملايين السوريين والليبيين والتونسيين نجحوا في ركوب القوارب للفرار من الحرب الأهلية والفقر، فلماذا لا ينطبق الأمر ذاته على الفلسطينيين؟
ورغم مُضيّ أشهر من ليِّ الذراع وراء الكواليس بواسطة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ليست هناك مؤشرات على أن نتنياهو أو جيشه سيحيدان عن خطة جعل غزة مكاناً غير صالح للعيش إلى الأبد.
ولدى كل منهما أهدافه المختلفة. إذ يريد نتنياهو استمرار الحرب لعلمه بأن تحالفه اليميني المتطرف سيتفكك بمجرد توقفها وسيصبح حينها في ورطةٍ كبيرة؛ لأنه سيكون مطالباً بتحمّل مسؤولية الثغرة الأمنية الضخمة التي سمحت لحماس باجتياح جنوب إسرائيل في شهر أكتوبر/تشرين الأول. ولن يرضى اليمين المتطرف سوى بهجرةٍ كبيرة للفلسطينيين من غزة.
بينما ليست لدى القيادة العليا للجيش رغبة كبيرة في احتلال غزة بشكلٍ دائم، كما تقاوم الأوامر بإعادة احتلال محور فيلادلفيا (صلاح الدين) المجاور لمعبر رفح مع مصر. حيث يريد الجيش استعادة شرفه المفقود وإعادة ترسيخ ردعه لحماس.
لكن كليهما يعمل بتناغم في الوقت الحالي. وليست هناك مؤشرات على أن إسرائيل تخلت عن خطتها الاستراتيجية لتفريغ غزة من جزءٍ كبير من سكانها. حيث يصور الجنود أنفسهم بكل شماتة وهم يفجّرون مناطق كاملة داخل القطاع.
هذا هو المزاج العام في إسرائيل. إذ توقف الجنود عن "البكاء وإطلاق النار" منذ وقتٍ طويل، وأصبحوا يضحكون وهم يطلقون النار اليوم.
ولا شك أن الاحتمالية الوشيكة لوفاة عشرات الآلاف من الأشخاص في غزة -نتيجة المجاعة والمرض- تسلط ضوءاً قاسياً على رفض المجتمع الدولي فعل أي شيء يخفف هذه المعاناة الجماعية التي هي من صنع البشر، والتي تنتهك معاهدات جنيف وكافة قواعد الحرب، والتي ترقى إلى كونها إبادةً جماعية سواءً حكمت محكمة العدل الدولية بذلك أم لا في نهاية المطاف.
ويتجاهل نتنياهو علناً مطالبات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي بضرورة عدم إعادة احتلال غزة، وعدم إقامة ممرات أمنية بطول الحدود القائمة مع إسرائيل، وعدم توقيع العقاب الجماعي على السكان المدنيين، وضرورة دخول الغذاء والماء. ولا تزال إسرائيل لا تتعرض لأي عقوبات بسبب هذا السلوك.
سياسة الوهم
هناك لمسة حنين واضحة إلى الماضي من جانب كاميرون في محاولته لإعادة تأطير قذائف المدفعية والقنابل الذكية الأمريكية، التي تصل إلى إسرائيل عبر قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في أكروتيري بقبرص، وذلك على اعتبارها مشروعاً عنوانه الاهتمام والمشاركة وحب الناس.
ولا يجب أن ينسى أحد إسهامه الشخصي في كارثة التدخل العسكري في الشرق الأوسط، والتي شهدت الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا وأفضت إلى حربٍ أهلية بعدها. لكن حتى لو أصابت نوبة فقدان الذاكرة المفاجئة جمهوره، فستظل سياسته في غزة سياسة وهم.
إذ تحدث كاميرون على وقع أصوات المحركات النفاثة من داخل قاعدة العديد في قطر، ليقول إن المساعدات المخصصة لغزة لن تصل بالشكل الصحيح إلّا في حال "وقف القتال بشكلٍ فوري".
وساعدوني كي أتذكر هنا، كم عدد الأسابيع التي قاومت فيها بريطانيا الوقف الفوري لإطلاق النار بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وذلك بدعوى أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؟
ثم قال كاميرون بعدها أن الوقف المؤقت للقتال يجب أن يتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار. فهل يستمع كاميرون إلى ما يقوله نتنياهو؟ لقد كتب مكتب رئيس الوزراء على منصة إكس في وقت مبكر من الشهر الجاري: "لن يُوقفنا أحد -لا لاهاي، ولا محور الشر (الذي تقوده إيران)، ولا أي شخصٍ آخر".
ألا يدرك كاميرون أن نتنياهو سيخسر حكومته بمجرد انحرافه عن ذلك الخط، وربما يخسر حريته أيضاً بسبب قضايا الفساد المرتقبة؟
ومضى كاميرون بعدها ليصف ما يجب على حماس فعله، وهي الجماعة المصنفة كتنظيم إرهابي داخل المملكة المتحدة: "يجب أن نرى قيادات حماس تخرج من غزة". وهم لن يفعلوا ذلك مطلقاً.
"يجب أن نرى تفكيك الآليات التي تُمكن حماس من إطلاق الصواريخ وشن الهجمات الإرهابية على إسرائيل". فهل تم تفكيك الجيش الجمهوري الأيرلندي قبل أم بعد التفاوض على اتفاق الجمعة العظيمة؟ ومتى تخلت أي حركة تمرد عن سلاحها قبل إبرام اتفاق سلام؟
"يجب أن نرى سلطةً فلسطينية جديدة لا تقتصر قدرتها على تقديم الحكومة والخدمات في الضفة الغربية فحسب، بل في غزة أيضاً". لكن السلطة الفلسطينية تقف عاجزةً عن حكم نابلس وجنين حالياً، ناهيك عن غزة.
"والأهم من ذلك، يجب أن يصبح لدينا أفق سياسي حتى يرى الشعب الفلسطيني والدول العربية في المنطقة أن هناك طريقاً يمتد من موقعنا الحالي إلى قيام دولةٍ فلسطينية". وهذا هو ما يتفاخر نتنياهو الآن بأن مهمة حياته كانت تتمحور حول منعه.
وكان من الواجب على كاميرون أن يقول من داخل مدرج العديد المزدحم أن تحقيق خطةٍ كهذه يحتاج إلى تغيير النظام في تل أبيب على أقل تقدير. ويجب عليه أن يعترف بمسؤوليته عن هذه المذبحة.
لقد كان التقاعس المتسلسل عن إقامة الدولة الفلسطينية من جانب كاميرون وأسلافه وأخلافه -وكذلك الحكومة التي هو عضوٌ فيها الآن ولم تعترف بفلسطين كدولةٍ بعد- هو السبب وراء خلق المأزق السياسي الذي أدى إلى التمرد الجديد الذي نشهده اليوم، ليس فقط في غزة، بل في كافة أرجاء الضفة الغربية المحتلة أيضاً.
تبرير الإسقاطات الجوية
إذا لم تمتثل إسرائيل لقرار محكمة العدل الدولية، واستمرت في تأخير دخول المساعدات عند الحدود واستهداف المدنيين المصطفين في الطوابير للحصول على الغذاء، كما أتوقع أن تفعل تماماً؛ فسوف تتزايد الضغوط على المملكة المتحدة والولايات المتحدة للبدء في إسقاط الغذاء جواً على غزة مباشرةً.
ولن تكون الحرب عائقاً في طريق ذلك. إذ حدث هذا في جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والبوسنة، فلم لا يمكن أن يحدث في غزة؟ لقد مهّد الأردن مع فرنسا الطريق بعمليات إسقاط محدودة لدعم المستشفى الميداني الأردني. فما الذي يمنع بريطانيا والولايات المتحدة من فعل الشيء نفسه؟
من الواضح أن الإجابة هي إسرائيل. ولنكن واضحين في الحديث عن المخاطر هنا. إذ لن ترغب إسرائيل -مهما حدث- في خسارة احتكارها للحصار الذي تفرضه على غزة منذ أكثر من 16 عاماً.
حيث إن الحصار الذي يسمح لإسرائيل بتنظيم درجة الألم الذي تفرضه على كل روحٍ في غزة هو أغلى الأسلحة في ترسانتها، وأكثرها شيطانية. وإذا خسرت إسرائيل ذلك السلاح، فستكون قد خسرت الحرب.
هذا هو سر خطورة قرار محكمة العدل الدولية، وهذا هو ما يجعلها لحظةً فاصلة.
– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.