لا يذكر أدب الأطفال واليافعين إلا وكان الكاتب البريطاني ذو الأصول النرويجية روالد دال (Roald Dahl) على عتبة روّاد ذلك الأدب؛ فقد ترك أدباً خالداً له رواج على المستوى الإذاعيّ والتلفازيّ عبر عشرات السنين.
يمتاز أدب روالد دال بالغموض البائن بوضوح؛ ذلك الغموض الذي يجعل القارِئ حريصاً على البحث عن الحقيقة في الوصف، كما يتخلّل تلك الحُبك الدراميّة الموجّهَة لليافعين شيء من الوصف الحسيّ المدجج بالفُكاهة الطيّبة. ومن تلك الأشياء حرصت شركة نتفليكس Netflix على أن تكون قصص دال الشهيرة في رؤية سينيمائية مغايرة لما نعهده في تحويل النصوص لأعمال درامية؛ فاختار المخرج الأمريكيّ المشهور ويس أندرسون Wes Anderson أربع قصص لروالد دال لتكون في أفلامٍ قصيرة جداً، محدثاً حالةً فريدةً في توظيف العمل الأدبيّ.
القصص الأربع هي: السُمّ، البَجعة، صائد الفئران، قصّة هنري شوغر الرائعة. والذي أراد متابعة تلك الأفلام القصيرة التي لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة باستثناء قصّة هنري شوجر الرائعة والتي كانت في حدود أربعين دقيقة يجد رؤية جديدة في طرح مثل تلك القصص، فالعديد من الأفلام المأخوذة من روايات أو قصص يجد المشاهد فيها البعد بين ما هو مكتوب وبين ما هو مُمَثّل، أما المخرج أندرسون فنجده قدّم الأفلام الأربعة دون أن يستبعد أياً من كلام روالد دال الوصفي أو السرديّ. ما فعله أندرسون أنه جعل راوياً للقصة في مشاهد كلّ فيلم، وفي البعد التقنيّ استخدم مشاهد تمثيلية ليكون المشاهد أمام نصّ مسموع ونص ممثّل؛ أي أنّه لم يفقد النصّ الأصلي للقصص، وبالفعل المتابع لتلك الأفلام يجد نفسه يسمع قصّة بعرض مسرحي.
وضّح المخرج أندرسون في مقابلة معه عن استخدام تلك التقنيّة والإبقاء على نصّ الكلمات الأصلي، إذ بيّن أنه معجبٌ مذ كان صغيراً بالكلمات الوصفية والسرديّة لروالد دال، كما أضاف أنه باستخدام الكلمات والأوصاف ذاتها فإنّه سيعلم كيف يستخدمها في مواضع أخرى. وبالفعل استطاع أندرسون جعلَ المشاهد في سحر الكلمات قبل سحر الصورة.
وليس بعيداً عن عالم روالد دال القصصيّ يمكننا الحديث عن قيمة أدبه في رؤية اعتبارية، إذ إنّ أدبه يتشكل في رؤية صراع بين الخير والشر، هذا الصراع النمطيّ الذي يبدأ في علاقة طفل مع من هم أكبر منه كما في قصّة البجعة، لكن الأبعد من ذلك نجد الموقف الإنساني يغلب على الكاتب البريطاني في معاداته للصهيونيّة، إذ كتب مقالاً مهمّاً تعليقاً على كتاب "بَكَى الله" للصحفيين توني كريفتون Tony Clifton وكاثرين ليروي Catherine Leroy إذ وصفا فيه مشاهد الألم والمعاناة لاجتياح بيروت من قبل القوات الإسرائيلية. فكانت كلمات الكاتب روالد دال حقيقة إنسانية تبيّن ألم ما حدث، إذ إن الكاتب البريطاني كان طياراً حربياً في قوات البريطانية، ويدرك معنى فقد الأرض وألم الحروب. ما يمكن قوله هو الربط بين المنطوق الوصفي للكاتب وموقفه الإنسانِيّ بعيداً عن موقفه السياسيّ، وقد ارتكبت إسرائيل عشرات المجازر بعد اجتياح بيروت.
إذ نكتب عن كاتب عظيم مثل رونالد دال في وقت تمارس فيه إسرائيل حالة الشر المستمر، فمشاهد القتل التي شاهدها رونالد دال قبل أكثر من أربعين عاماً في بيروت تتكرر الآن في غزة، مؤكدة أن الشر حالة إنسانية بقيادة كيان محتل، فذلك الطفل الذي تحوّل بجعة في قصة دال هارباً من شرّ قليل يشبه إلى حد كبير أطفال غزّة، يحوّلهم ذلك الشر الأعظم إلى ملائكة في جِنان الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.