يرجع أصل المشروع الصهيوني إلى مجموعة من الافتراضات الكاذبة.
الافتراض الأول: أن فلسطين كان يسكنها اليهود وحدهم، وأن الفلسطينيين هم الذين احتلوها وطردوا اليهود وشتتوهم في كل بقاع الأرض، وآن الأوان لاسترداد فلسطين حتى تكون خالصة لأهلها اليهود، وأن قتلهم للفلسطينيين انتقام مشروع من الغزاة، ولذلك يعتبرون احتلال إسرائيل خارج قرار التقسيم للأراضي الفلسطينية استرجاعاً وليس احتلالاً، والذي طور هذه النظرية بشكل حديث هو بنيامين نتانياهو منذ 1996.
الافتراض الثاني: هو أن اليهود لديهم عقدة الاضطهاد بسبب عبقريتهم مقارنة بالشعوب الأخرى التي عاشوا معها، وأن هذا الاضطهاد مشهود في التاريخ بسبب عبقريتهم، والحل ليس في إرغام الشعوب الأخري على احترام اليهود وإنما ضرورة فصل اليهود عن هذه الشعوب وتجمعيهم بدولة خاصة بهم.
الافتراض الثالث: أن دولة اليهود لابد أن تكون خالصة لهم ولا يخالطهم فيها الفلسطينيون.
الافتراض الرابع: أن هذه الدولة تتصف بأربع صفات: الصفة الأولى أنها تجسيد للعبقرية والإبداع، وقد تصور الرئيس بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد التزاوج بين رأس المال العربي والعمل العربي الرخيص وبين العبقرية اليهودية.
الصفة الثانية أن دولة اليهود ستكون رافعة للمنطقة من التخلف الاقتصادي والسياسي والثقافي، ومن البربرية إلى مصاف الحضارة والرقي والديمقراطية.
الصفة الثالثة هي أن دولة اليهود امتداد حضاري لرسالة الغرب الديمقراطي، ولذلك فهي تزعم أنها الديمقراطية الوحيدة النموذج في المنطقة.
الصفة الرابعة هي أن إسرائيل لابد أن تتسلح بكل الأسلحة لأنها زرعت في بيئة عربية متخلفة ومعادية، ولذلك تصور نتنياهو أن إسرائيل لابد أن تقضي على العرب وتبيد الشعب الفلسطيني حتى تخلو الأرض من السكان ويتم استقدام يهود العالم لكي تقوم إسرائيل الكبرى.
الافتراض الخامس: أن إسرائيل هي المقدمة العملية للمشروع الصهيوني.
الافتراض السادس: أن إسرائيل هي الكومنولث اليهودي.
الافتراض السابع: أن إسرائيل لابد أن تخفي مقاصدها الحقيقية وأن تنفذ أهدافها على مراحل.
الافتراض الثامن: أن إسرائيل لابد أن تكون لديها أوراق القوة الأساسية وهي ثلاثة: أولها الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة والغرب من ورائها، وثانيها ضرورة التمسك بالممارسات الديمقراطية بالنسبة لليهود فقط، أما الفلسطينيون داخل إسرائيل فلا ضرر أن يتمتعوا بالجنسية الإسرائيلية وأن ينفرد اليهود بالمواطنة، وثالثها ضرورة استخدام القوة ضد الدول المجاورة واحتلال أراضيها ورد بعض هذه الأراضي مقابل التخلي عن الصراع مع إسرائيل، وتطبيقاً لذلك احتلت الجولان في سوريا وسيناء في مصر والضفة الغربية والقدس في فلسطين.
الافتراض التاسع: ضرورة استقدام ما تيسر من يهود العالم وتسكينهم في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بصفتهم مستوطنين، وبعد ذلك تضم إسرائيل المستوطنات إليها في أي تسوية قادمة، ولهذا السبب تمسك بيجن رئيس وزراء إسرائيل بالمستوطنات في سيناء ورفض رفضاً قاطعاً طلب الرئيس كارتر سحب المستوطنات من سيناء، ولكي يشجع كارتر بيجن على هذه الخطوة ويمكّنه من إقناع الكنيست بذلك أصدر الرئيس كارتر تعهداً لبيجن بأن واشنطن لا تمانع عودة إسرائيل لاحتلال سيناء إذا قامت في القاهرة حكومة تعادي إسرائيل.
الافتراض العاشر: اندماج إسرائيل في المنطقة والقضاء على العروبة وإحلال الصهيونية محلها صفة للمنطقة، ويترتب على ذلك إزاحة مؤسسات العمل العربي المشترك والجامعة العربية، وإزالة اسم العالم العربي لكي يحل محله الشرق الأوسط الجديد.
الافتراض الحادي عشر: أن مصر هي المعول عليها في العالم العربي، ولذلك استهدف المشروع الصهيوني مصر بالأساس للقضاء عليها والسيطرة على قرارها وإخراجها من الجغرافيا والتاريخ، وتصورت إسرائيل ومعها واشنطن أن سد النهضة ومنع المياه عن مصر هو الذي يحقق ذلك، فمصر بغير النيل عدم، وقديماً قال المؤرخ اليوناني هيرودوت إن مصر هبة النيل، وبالفعل نشأت مصر على شواطئ النيل وتوزع سكانها بجوار النيل، حتى إن جمال حمدان في كتابه الموسوعي شخصية مصر أكد أن النيل يحمي مصر من الزوال والفقر والتقسيم، فإذا زال النيل تحققت هذه المصائب الكبرى لمصر: الزوال والفقر والتقسيم.
ونلاحظ أن هذه الأفكار انتشرت بشكل أو بآخر بين اليهود منذ العصور الوسطى، ولكن ظهر الصحفي النمساوي اليهودي تيودور هرتزل وتجاسر على نشر كتابه الدولة اليهودية، وكان هذا الكتاب هو أصل المشروع الصهيوني الذي تمت مناقشته في 5 مؤتمرات بدأت بمؤتمر بازل في أغسطس 1897. والملاحظ أن هذا المشروع كان حلماً لا يؤيده الواقع، ولذلك قوبل المشروع بالاستخفاف والاعتداء على هرتزل، ووصفه اليهود بأنه مجنون وأنه يتلاعب بمأساة اليهود واضطهادهم في كل أماكن وجودهم، خاصة أنه سبقت نشر الكتاب مجموعة من حوادث الاضطهاد المؤسفة في مختلف الدول الأوروبية خاصة في روسيا وفرنسا، ذلك الاضطهاد الذي أدى بكل دول أوروبا إلى أن تطرد اليهود منها في فترات متعاقبة، ولكنهم كانوا يعودون إلى البلاد التي طردوا منها.
ولكن هذا المشروع وجد دعماً هائلاً من شخصيات يهودية كبيرة ومن بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، ولذلك بدأت محطات المشروع الصهيوني التي سجلها التاريخ على نحو حذر، وهذه المحطات الأساسية هى:
أولاً: اتفاق سايكس بيكو في 19 مايو 1916 خلال الحرب العالمية الأولى التي بدأت 1914 وانتهت 1918.
ثانياً: المحطة الثانية هي تصريح اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا أمام مجلس العموم البريطاني في الثاني من نوفمبر1917، وبهذا التصريح انتقل المشروع من الحلم إلى بداية الواقع، ونزل على الأرض اشتباكاً جسوراً مع الواقع، حيث تعهدت بريطانيا العظمى برعاية المشروع وتنفيذه على الأرض، حيث نص التعهد على إقامة وطن قومي في فلسطين لليهود، ولم يكن هذا التعهد مطابقاً للمشروع الصهيوني، فلم ينص التعهد على تحويل فلسطين كلها إلى وطن قومي لليهود، ولكن السياسة العملية لبريطانيا العظمى أقنعت اليهود بالأمل في متابعة حلمهم بالاستيلاء على كل فلسطين.
ثالثاً: المحطة الثالثة 1918، حيث نشأت الوكالة اليهودية ومثلت اليهود في مؤتمر فرساي للسلام، وتولت الوكالة الإشراف على تهجير اليهود من روسيا وأوكرانيا في موجات متتالية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إن عهد العصبة الذي تبنته فرنسا وضع نظام الانتداب في المادة 22 من العهد، وكان الانتداب هو التستر على جهود بريطانيا في إنشاء إسرائيل.
رابعاً: المحطة الرابعة هي دخول واشنطن لمباركة المشروع في مؤتمر حاشد في ضواحي مدينة واشنطن عام 1922.
خامساً: المحطة الخامسة هي تشكيل العصابات الصهيونية لكي تكون أداة لانشاء إسرائيل، ولذلك توزعت هذه العصابات مع الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية للتدريب والحصول على الأسلحة، فكانت هذه العصابات جاهزة للاستيلاء على فلسطين بالقوة.
سادساً: المحطة السادسة هي قرار التقسيم رقم 181 في 29 نوفمبر 1947، وهكذا انتقل المشروع إلى المستوى الدبلوماسي طلباً لتأييد المجتمع الدولي ممثلاً في موسكو وواشنطن اللتين أيدتا المشروع وتقسيم فلسطين، وبالطبع كان قرار التقسيم اختباراً للعرب الذين رفضوه بالطبع كما رفضته إسرائيل أيضاً، ورفضت إسرائيل على لسان أبا أيبان مندوب الوكالة اليهودية في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يكون قرار التقسيم أساساً لشرعية إسرائيل، والملاحظ أن العرب يرددون في قممهم صيغة ساذجة هي قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ولنا على هذه الصيغة ملاحظتان: الأولى: أن حدود الرابع من يونيو تضيف إلى إسرائيل بالاضافة إلى قرار التقسيم حوالي 21% من مساحة فلسطين، فهو اعتراف عربي مجاني بهذه المساحة مكافأة لإسرائيل. والملاحظة الثانية أن القدس لم تكن مقسمة، وإنما قسمتها إسرائيل حين استولت على غرب القدس بالإرهاب عام 1949، ثم احتلت شرق القدس عام 1967 واعتبرت إسرائيل غرب القدس جزءاً منها، بينما شرق القدس تعتبر أراضي فلسطينية محتلة، فكأن الصيغة العربية للسلام تكرس موقف إسرائيل، ولذلك استخفت إسرائيل بالمواقف العربية في هذا الشأن.
سابعاً: المحطة السابعة عام 1948 حيث نشأت إسرائيل في 15 مايو من ذلك العام، وانتصرت إسرائيل على ستة جيوش عربية، وحاصرت الجيش المصري في الفالوجا في غزة، ورفضت فك الحصار عنها حتى اضطرت مصر في أولى خطوات الابتزاز الإسرائيلي إلى توقيع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل في 9 فبراير 1949 في جزيرة رودس، واستولت إسرائيل على أم الرشراش المصرية بعد توقيع اتفاقية الهدنة وأطلقت عليها إيلات، ولم تطالب مصر بها أبداً.
تاسعاً: المحطة التاسعة هي عدوان 1967، ولكن حرب التحرير 1973 لم تمح آثار هزيمة عام 1967، بل كان تقارب السادات من واشنطن عام 1972 قبل الحرب سبباً في تحويل النصر العسكري إلى ما اعتبره هزيمة سياسية ودبلوماسية كاملة بسبب أوهام السادات حول واشنطن والمشروع الصهيوني، تلك الأوهام التي مازالت سبباً في تفرق المصريين في تقييم معاهدة السلام.
وقد تحول الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1979 إلى مجرد نزاع فلسطيني إسرائيلي، وفي ذلك المناخ نجحت إسرائيل بمساعدة واشنطن في اختراق العالم العربي بحيث ضمت إلى مصر والأردن مجموعة أخرى من الدول في إطار الهيمنة الإسرائيلية، وهي البحرين والإمارات والمغرب والسودان.
ولذلك أصيبت إسرائيل بهذا الفزع الشديد من عمليات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.