بعد أن كشفت الولايات المتحدة الأمريكية عن قناعتها الإمبريالية بشكل واضح وصريح خلال الحرب الحالية، لا أعلم ما الذي تنتظره دول العالم لكي تتحرر من تلك الهيمنة؟! ما الذي تنتظره حكومات دولنا لفعله لتكون سيدة قراراتها؟! فمن باب إسلاميتها ومسؤوليتها عن رعاية شعوبها، هل ستستمر على نهجها الخانع والبائس بشكل يوحي بأن طلب الحقوق يمر أولاً عبر أمريكا التي لن تمرره أبداً؟ فماذا تنتظر؟! وخصوصاً بعد أن أظهرت واشنطن أنها لا تريد عالماً يقوم على القوانين وتبادل المصالح بشكل عادل، فأمام مرأى ومسمع العالم اليوم نرى الدعم الأمريكي الهائل للاحتلال لإبادة الفلسطينيين ووجودهم للأبد.
كما أنني أستغرب المطالبة بحل الدولتين مع أنه تم إعلان الدولة الفلسطينية مسبقاً وقد اعترفت به الكثير من الدول، لم لا يُبنى على الإعلان السابق ويطلب من الدول التي لم تعترف بفلسطين الاعتراف وإكمال عقد الدول في الأمم المتحدة؟ ما هي مشكلتنا في هذا الأمر؟ وكيف لنا التخلي عن قراراتنا السابقة بكل هذه السهولة؟ التفاعل مع الواقع وظروفه المتغيرة لا يعني التخلي عن الموضوع برمته.
لطالما داومت الولايات المتحدة مراوغة العرب في قضية فلسطين لكيلا تضر بمصالحها، فظن البعض منا أنه ربما لا تعارض قيام دولة فلسطينية، إذ كانت تطلق العنان لرؤسائها ووزراء خارجيتها لإطلاق تصريحات بشأن دعمهم لقيام دولة فلسطينية، بينما تستمر ممارستها وسياستها في الشرق الأوسط لتهميش الفلسطينيين والقضاء على وجودهم على طريقتها الاستعمارية.
فخلال عام 1988 حينما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في قصر الصنوبر بالعاصمة الجزائرية قيام دولة فلسطين، وحتى عام 2019، اعترفت 138 دولة حول العالم بدولة فلسطين، ما عدا الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وأستراليا وطبعاً إسرائيل وبعض الدول الأخرى، حيث بلغ عددها 55 دولة، ما أدى إلى تغيير وضع فلسطين في الأمم المتحدة إلى دولة مراقبة غير عضو.
محاولات عديدة جعلت الولايات المتحدة نداً لهذه الدولة، واستخدمت جميع الطرق لثني البلدان والمنظمات عن الاعتراف بها، تارة عن طريق الإرهاب العسكري وتارة الإرهاب المالي، ثم تم التخلي عن المضي بالاعتراف لدى الدول العربية بالخصوص حينما هددت أمريكا منظمة الأمم المتحدة بقطع التمويل عنها، وتعاقب رؤساء الولايات المتحدة على عدم تمرير قرار الاعتراف، كما اقترح الكونغرس مشروع قانون حول تهديد أي دولة أو هيئة مالياً في الأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطينية أو منح فلسطين وضعاً عالياً في الأمم المتحدة.
هذه الضغوطات وضعتها الولايات المتحدة أثناء ولاية أوباما، واستمرت التهديدات باستخدام حق النقض لإحباط أي قرار يلتمس حلاً للقضية الفلسطينية من خلال إقامة دولة، لذا لنطرح السؤال لدولنا مرة أخرى بطريقة مختلفة: ما الذي يمكن أن يتم تقديمه من تنازلات أخرى حتى ترضى عنا واشنطن وتوافق على قيام دولة فلسطينية؟! لا شيء! فشرط قيامها سيظل خنجراً في رقبة إسرائيل، ولكن يبدو أنه بعد تلك السنوات ومع توالي عمليات التطبيع مع إسرائيل لا أحد من أنظمتنا يلتفت لذلك الشرط. فإلى أين نريد الوصول؟ وإلى أي مدى يمكن التساهل في القضية الفلسطينية؟ ولماذا نحاول تصدير لأجيالنا الحالية ثقافة وسياسة الهوان والتساهل في قضايانا وعروبتنا؟!
إن الخضوع للاحتلال لا يجدي نفعاً، فالطبيعة البشرية والحضارة الإنسانية بكامل إنتاجاتها المادية والفكرية لطالما سعت دائماً إلى الحرية، إذ ترفض الخضوع للواقع، للطبيعة، لقوانين الغاب، لتؤكد على أن "المقاومة" فعل فطري، وموقف طبيعي للإنسان في هذه الحياة. من هنا ينبغي أن ينطلق التأكيد على منطقية المقاومة، فماذا جلب لنا الخضوع والاستسلام؟ فلننظر كيف يستخدم الاحتلال أبشع أنواع الضغط على السلطة الفلسطينية لعدم القيام بأي أعمال منفردة حول القضية الفلسطينية، وكيف يحجب عنها مدفوعاتها الشهرية لأكثر من مرة، ويكبلها ويخضعها ويهددها بأنها إذا قامت بعمل أحادي في الأمم المتحدة سيؤدي بها إلى انتهاك اتفاقيات أوسلو، ولذا نرى سياسات السلطة الفلسطينية الآن غير قادرة على اتخاذ مبادرة بشأن هذا الملف الكبير (الدولة الفلسطينية)، كما أن هناك أسباباً أخرى متعلقة ربما بالسلطة نفسها.
ببساطة وبعيداً عن أي تعقيدات وسرد للشواهد لا تتسع لها مجلدات، أمريكا لا تريد قيام دولة فلسطينية بل تحارب وجودها، وعلاقة أمريكا بمختلف إداراتها جمهوريين وديمقراطيين حتى وإن توترت في بعض الأوقات مع إسرائيل، ستظل علاقة لا تنفك للأبد، لذلك فيما يخص قيام الدولة الفلسطينية تتشارك أمريكا تخوفاتها مع إسرائيل في عدة أمور، أهمها أنه إن تم الاعتراف بفلسطين كدولة فحينها ستتمكن فلسطين من الانضمام إلى المعاهدات ووثائق الأمم المتحدة المختلفة، ومحكمة العدل، بشكل فعال، وسيسمح ذلك لها بالاستحواذ والسيطرة على الحيز الجوي وعلى البحر، بل وسيكون ذريعة لرفع دعوى بشأن احتلال فلسطين عام 1948 وطلب السيادة على أراضيها. كل ذلك لا يشغل إسرائيل وحدها، بل يشغل بال راعيتها الأبدية الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإن أمر استجداء واشنطن لإقامة دولة أمر غير منطقي من دولنا، إذ لا يعنيهم تشتت الشعب الفلسطيني بقدر ما يعنيهم بقاء الاحتلال على الأرض الفلسطينية.
هنا يتضح المأزق الذي تتنازع فيه أمريكا مع باقي دول العالم الحر، فهي من ناحية واضحة جداً من خلال نواياها، بينما تحاول ليّ تصاريحها وإخفاء أهدافها أثناء الاجتماع مع الدول العربية والإسلامية وخصوصاً في أيام الحرب، فأصدقاؤها يتناقصون، بينما تترقب الصين وروسيا وغيرهما الفرصة للقضاء على تلك الهيمنة، وتظل الدول العربية في مأزق شديد التناقض حيث تسعى لإيجاد مخرج مواتٍ من الهيمنة الأمريكية دون التخلي الكلي عنها باعتبارها قوة لا يستهان بها لها قواعدها في المنطقة منذ فترة طويلة.
لذلك تظل الرؤية ضبابية، فالمعيار القائم على التخلي عن الولايات المتحدة عائم وغير واضح حالياً، فنرى الأنظمة العربية بينما تسعى للفكاك من تلك الهيمنة منذ مدة، فمن ناحية السيطرة المالية انضم بعضها لتكتل دول بريكس، ومن الناحية العسكرية هناك تقارب كبير مع الصين وروسيا كدول عظمى تصدر السلاح دون شروط استعمارية.
وفي ظل هذا التردد والتخبط العربي، بلغت الفجاجة الأمريكية حداً غير مسبوق، وصارت تؤكد بالقول والفعل بشكل واضح للجميع أنها لن تتخلى عن إسرائيل مهما حدث، ولذا يحق لها ما لا يحق لغيرها؛ وهي بذلك لا تقف بجانب إسرئيل فحسب بل تعزز هيمنتها عالمياً أيضاً، فهي من تقرر قواعد اللعبة والمعتدي والبطل، فحينما تصف أمريكا الحركات التحررية أو المنظمات بالارهابية فإن ذلك يصبح أمراً واقعياً، ولا يقابله فعل مماثل من الدول الأخرى، فحتى في بعض أخبار الصحافة العربية والإسلامية توسم تلك الحركات بالإرهابية أيضاً. أما إسرائيل التي سلبت الأرض وقتلت سكانها وأبادت عائلات بأكملها من خلال مذابحها، يتحفظ الأغلب على وصمها بالإرهابية علانية بحجة المهنية أو التبعية.
إن الهيمنة الأمريكية لا تقف أمام قيام دولة فلسطين فقط بل أمام قيامنا فرداً وجماعة من خلال التحكم بقواعد اللعبة، حيث يوسم المدافعون عن حقوقهم وحرياتهم بالإرهاب، بينما يُحتفى بالغاصبين باعتبارهم حملة للأخلاق الرفيعة. وفي هذا الإطار، يصبح الصراع في فلسطين أكبر من مجرد نزاع إقليمي؛ إنه يمثل تحدياً لمجتمعاتنا ووجودنا، ويكشف عن الانحيازات السياسية العميقة. رغم ذلك، يظل الأمل موجوداً ومعقوداً على إيمان شعوبنا بقضيتهم وعلى استمرارهم في المقاومة والكفاح. فالمستقبل الذي نسعى إليه لن يُمنح بسهولة، بل يُكتسب بالعزيمة والكفاح، لا بالمفاوضات المهزومة، فأمريكا ليست وسيطاً عادلاً إذا كان الأمر مرتبطاً بالاحتلال الإسرائيلي، فوساطتها كحبوب البنادول المسكن لا يرجى منها حل دائم، وتاريخها شاهد وواضح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.