ينبع دعم ألمانيا الثابت لإسرائيل من إرث تاريخي يتمثل في المحرقة، التي قتلت فيها ألمانيا النازية 6 ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية كجزء من خطتها لإبادة جميع اليهود في أوروبا.
لم تكُن المحرقة حالة شاذة، أو "نتيجة عرضية" للحداثة، كما تزعم الحكمة التقليدية في أوروبا وأمريكا، بل كانت مظهراً رهيباً للسمات الأساسية للحداثة الاستعمارية، كما هو واضح بالنسبة للشعوب المستعمَرَة التي تعرضت لوحشيةٍ شديدة من جانب الإمبراطوريات الأوروبية، إذ ارتكبت الإمبراطورية الألمانية في السابق إبادةً جماعية ضد قبيلتي الهيريرو والناما في جنوب غرب أفريقيا على نحوٍ لا يُغتفر.
ومع مرور الزمن وبعد خسارة ألمانيا للحرب وتقسيمها ثم توحيدها من جديد بعد سقوط برلين، حاولت ألمانيا أن تثبت لقادة الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، أنها تركت هذا التاريخ الدموي وراءها، لتكتسب الحق في أن تعود لبيت أوروبا الذي كانت تنهال عليه بالقصف والاحتلال.
وفي أقل من قرن، تعود ألمانيا التي كانت تبيد اليهود على يد النازية قبل أكثر من 70 عاماً، لتدعم إسرائيل لارتكاب إبادة أخرى، لكن هذه المرة بحق الفلسطينيين.
لقد أجرمت ألمانيا بارتكاب الإبادة الجماعية. وحقيقة ارتكاب هذه الإبادة الجماعية ضد اليهود ليست أمراً خاصاً. إذا كانت هذه الجريمة قد ارتُكِبَت ضد قومٍ آخرين، ستظل ألمانيا هي التي نفَّذت الإبادة وارتكبت هذه الجريمة. خلاصة الأمر أن ما يميز المحرقة لا يرتبط مباشرة باليهود؛ بل لكونها إبادة جماعية.
واليوم، عندما ترتكب إسرائيل جريمة إبادة جماعية، فإن الدعم الذي تتلقاه من الدول الغربية الأخرى غير مقبول، ناهيك عن الدعم الألماني. ربما من الصعب على البعض أن يفهم لماذا تسمح دولة لديها مثل هذه الوصمة في تاريخها وتزعم أنها تشعر بالأسف والخجل منها، بأن تنخدع إلى هذا الحد من قبل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي تنتهج سياسة استعمارية مخزية، وكأن هذه الدولة لم تتعلم أي دروس من أخطائها في الماضي.
يحاول العديد من المسؤولين في أوروبا شرح مدى فظاعة فكرة التكفير عن ذنب ألمانيا تجاه اليهود من خلال غض الطرف عن الإبادة الجماعية. لكن القضية الحقيقية التي تدين بها ألمانيا هي أنها ارتكبت إبادة جماعية، وهي ملزمة بدفع دينها الحقيقي لا في حق اليهود فقط بل للشعوب الأفريقية أيضاً التي ارتكبت بحقهم البشاعات، بدلاً من أن تدعم إبادة جماعية أخرى تحدث في العالم، وفي هذه الحالة فإنها تضيف الشعب الفلسطيني كضحية أخرى لسجلها الإجرامي.
وهنا يأتي السؤال المهم: هل سيكون الألمان حقاً في الجانب الخطأ من التاريخ مرتين؟ هل سيستمرون في الوقوف متفرجين وهم يشاهدون التطهير العرقي الحديث؟ وكيف سيتمكنون في المستقبل أن يقولوا أمام العالم إن هذا لن يحدث مرة أخرى أبداً؟
الحداثة الاستعمارية والمشروع الصهيوني
كانت الحداثة الاستعمارية هي نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحديثة (الدولة القومية، والملكية الخاصة والفردية، والتقسيم الرأسمالي للعمل، والقانون الدولي، إلخ) ضمن المشروع الاستعماري الأوروبي من القرن الخامس عشر فصاعداً، وتتميز بالإبادة الجماعية، أي استعباد وقتل واستغلال ملايين الأشخاص المستعمرين.
ولكي ننظر إلى المشهد وندركه بشكل أوسع، نحتاج إلى أن نرى أن هذه ليست المرة الأولى التي ترتكب فيها الحداثة الاستعمارية مثل هذه الفظائع التي لا يمكن تصورها على مدى الـ500 عام الماضية، وأن هذه العقلية تجلت مراراً في نمط معين. وبالطبع كانت الصهيونية، التي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر، هي ابنة هذه الحداثة الاستعمارية وهي المظهر الأكثر وضوحاً للاستعمار في عالمنا اليوم.
كان القضاء على المسألة اليهودية من خلال السماح لليهود المطرودين من ألمانيا بالاستقرار في الشرق وإنشاء وجود صهيوني يستمر في خدمة الغرب إلى حد كبير نتيجة لسياسة الإمبراطورية البريطانية. وهكذا بدأت "العلاقة الخاصة" بين المشروع الصهيوني والقوى الإمبريالية الغربية التي رأت في المشروع الصهيوني رصيداً لمصالحها الإمبراطورية في المنطقة. لقد كانا كلاهما مميزين لأنهما كانا جزءاً من نفس المشروع الاستعماري للحداثة. حيث اتبع وطبق المشروع الصهيوني نفس أساليب العنصرية والاستعمار الاستيطاني التي ميزت الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الأمريكية؛ التجريد العنصري من الإنسانية، وعنف الإبادة الجماعية، جنباً إلى جنب مع أساليب إخفاء الواقع الوحشي للعنصرية والاستعمار.
ولكي نفهم لماذا تتصرف إسرائيل بهذه الطريقة الوقحة في الإبادة الجماعية اليوم، نحتاج إلى تأطير المشروع الصهيوني بشكل صحيح ضمن هذه الصورة الأكبر للحداثة الاستعمارية، إذ لا يمكن تفسير بأي شكل من الأشكال هذه الإبادة الجماعية كعملية عسكرية تقوم بها دولة ديمقراطية ليبرالية من منظور حماية أمنها، فلا يمكن لأحد أن يقتل 30 ألف شخص ويصيب 60 ألفاً آخرين فقط من أجل أمن نفسه.
من الواضح أن القتل الجماعي العشوائي للمدنيين الفلسطينيين ليس طريقاً إلى الأمن، لذلك لا يمكن تفسير ذلك إلا باعتباره استمراراً للمشروع الاستعماري الاستيطاني، والذي يعد جزءاً من الحداثة الاستعمارية، التي تصوِّر القتل الجماعي العشوائي للمدنيين الفلسطينيين على أنه عمل "عقلاني"، وفقاً لنظرتها العنصرية وأساليبها الضبطية، لتحقيق هدف أغلبية يهودية تعيش في جميع الأراضي من النهر إلى البحر.
في هذه المرحلة، ما تقوم به المقاومة الفلسطينية هو استمرارها في النضال كمناهض ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والإمبريالية الأمريكية، حيث لا تواجه هذه المقاومة الاحتلال الإسرائيلي فقط بل الطبيعة الوحشية للحداثة الاستعمارية المتمثلة في الصهيونية.
ذروة الاستعمار.. ماذا عن انهياره؟
كانت فلسطين أرضاً للعديد من الديانات والثقافات، وينبغي الاحتفال بهذا باعتباره إنجازاً للبشرية، حيث كان واقع تلك الأرض وقداستها في ذلك الوجود الإنساني المتنوِّع والمترابط، إلا أن الوضع اليوم بعيد عن هذه التأكيدات. والسبب في ذلك هو الصهيونية، التي تأخذ هذا الهيكل المختلط والمعقد وتدعي أن التاريخ اليهودي فقط هو المهم في هذه الأراضي. إنها تحوِّل الترابط البديع في التاريخ إلى نظرة أحادية مشوَّهة تعترف فقط بالوجود اليهودي، والأخطر أنها تشير إلى أن السيادة اليهودية الإسرائيلية فقط هي التي يمكن أن توجد في هذه الأراضي.
إذا كان القرن التاسع عشر هو ذروة الحداثة الاستعمارية، فيجب على ملايين الأشخاص حول العالم الذين يريدون حقاً إنهاء استعمار هذا النظام العالمي الإمبراطوري أن يتخذوا موقفاً ينهي عصر الحداثة الاستعمارية. إننا نرى هذا الخط الفاصل بين الغرب الإمبراطوري وجزء كبير من العالم المستعمر حديثاً حالياً في محكمة العدل الدولية، حيث تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. وبينما تعارض الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا، فإن العديد من دول الجنوب العالمي مثل ناميبيا وبوليفيا وكولومبيا ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرها تدعم القضية، لكن ما زال هناك حاجة إلى مزيد من العمل على طول خط الصدع هذا، فليس لدينا وقت لنضيعه، إذ يجب اتخاذ موقف ضد كل مظاهر الحداثة الاستعمارية الآن، لا يعني أقل من إنهاء الإمبريالية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة.
يدعو هذا على وجه التحديد إلى وضع حد لسلطة الشركات المتعددة الجنسيات وهيمنتها (مثل الحملة ضد ستاربكس)، وإصلاح جذري يبدأ بتأسيس نظام ديمقراطي بحق، وهو "دَين" الاستقرار والازدهار الإقليميَّين الذي يقع على عاتق الدول الغربية وأوروبا والمؤسسات المالية التي نهبت العالم لعدة قرون. وهذا يعني من بين أمور أخرى تدمير الأنظمة الثقافية والتعليمية المتمركزة في الغرب، وإعادة النظر في البيئة الطبيعية ليس باعتبارها "موارد" يستخرجها البشر بكل تهور، بل كهبةٍ عظيمة من شأنها دعم وتمكين حياة البشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.