ما زال البلد الممتد على طول سواحل القرن الأفريقي يسعى جاهداً للتقدم خطوة خطوة على طريق ترسيخ وجود الدولة بمؤسساتها ووحداتها الإدارية وسلطتها القانونية، وقد تكللت الكثير من جهوده بالنجاح في نهاية المطاف، وكان آخرها انتزاعه لحقه كدولة في استيراد الأسلحة من الشركاء والأطراف الدولية، بما فيها الأسلحة النوعية والثقيلة، فقد استطاع الصومال إنهاء حظر الأسلحة المفروض عليه منذ عام 1992، وذلك بعد تصويت مجلس الأمن بالإجماع على القرار رقم (2714)، حيث وافق أعضاء مجلس الأمن المكون من 15 دولة على مشروع قرار يقضي برفع حظر الأسلحة على الصومال، وذلك في الأول من شهر ديسمبر الماضي لعام 2023.
وإن توقع نتائج هذا القرار يحتاج لتحليل وقراءة في خلفياته التاريخية، فالصومال الذي مزقته الحروب الأهلية والانقسامات الداخلية، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية بوجهيها السياسي والعسكري، جعل الفوضى السياسية والأمنية والتدهور الاقتصادي السمة العامة الملازمة لهذا البلد على امتداد ثلاثة عقود متتالية، وأصبح كيان الدولة هشاً فضعفت سلطتها المركزية، بل فقدت تلك السلطة بالكامل في مناطق واسعة من الصومال، فيما حلت محلها سلطة الفصائل المسلحة المحلية والعشائرية أو مسلحو حركة الشباب الصومالية التابعة فكرياً لتنظيم القاعدة، فكان من تبعات الاضطراب والفوضى اللذين سادا بعد انهيار نظام محمد سياد بري، قرار الأمم المتحدة وضع الصومال تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني 1992، وجاء القرار بهدف حماية المدنيين وبذريعة أن الوضع في الصومال يهدد السلم العالمي، فكان من بنود هذا القرار حظر تصدير الأسلحة وإدخالها إلى الصومال لمنع وصولها إلى أمراء الحرب الداخلية والميليشيات العشائرية والمتطرفة.
ولكن اتضح أن القرار لم يدرس بعناية، فلم يحقق المطلوب من حيث حمايته للمدنيين أو منع تسلح أطراف الحرب الأهلية، إذ استمر تدفق الأسلحة الخفيفة بطرق غير قانونية، وهو ما ضمن استمرارية الصراع المسلح وتصاعد حدته، لأن ذلك الوضع أنتج حالةً من تكافؤ القوى بين القوى الحكومية من جهة وبين الفصائل المسلحة العشائرية والمتطرفة من جهة أخرى، فمنع الحسم العسكري ووصل الصراع المسلح إلى حالة من الاستعصاء والاستنزاف طويل الأمد، وبالطبع فقد استمر بالتزامن معه فقدان الكثير من المدنيين الأبرياء لأرواحهم وازدياد تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في ربوع البلاد.
ناضلت الحكومات الصومالية المتعاقبة لكسر هذا الحظر التعسفي وغير المدروس، كما أدرك المجتمع الدولي تدريجياً عدم تحقيق هذا القرار للجدوى المنشودة منه، ولكن الإقدام على خطوات عملية لتدارك ومعالجة التبعات السلبية له كان بطيئاً جداً. وبالرغم من التباطؤ الدولي إلا أن بعض التغييرات والقرارات التي اتخذها المجتمع الدولي خففت من صرامة حظر الأسلحة المفروض على الصومال، ومنها قرار مجلس الأمن رقم (1356) الذي اتخذ في يونيو/حزيران من عام 2001، والذي سمح بإعفاءات محددة تسمح للحكومة الانتقالية بتوريد إمدادات عسكرية غير فتاكة، وكان الهدف من هذا القرار دعم الحكومة الصومالية الانتقالية التي أسست حديثاً في مؤتمر عرتا سنة 2000، وتبع ذلك عدة إجراءات من مجلس الأمن ساهمت في رفع جزئي للحظر المفروض على قوات الأمن الصومالية، كما ساهمت القوات والبعثات الدولية المسلحة والتي قدمت لدعم الحكومة الانتقالية وتثبيت حكمها في تسليح القوات الصومالية.
ولذلك لا غرابة في الترحيب الرسمي والشعبي الصومالي بالقرار الأخير لمجلس الأمن؛ لأن ذلك سيرجح كفة القوات المسلحة الرسمية في صراعها مع الفصائل المسلحة الغير حكومية والمتطرفة، وعلى رأسها حركة الشباب، فرفع الحظر سيدعم عملية إعادة بناء وهيكلة القوات المسلحة الصومالية وتحسين قدرة القوات الحكومية على ضبط الأمن وبسط سيطرة الحكومة الفيدرالية على كافة المناطق الصومالية، بالإضافة إلى حماية وضبط الحدود البرية، كما أن ذلك سيقلل من خطر القرصنة البحرية التي قلّ خطرها بالفعل في السنوات الأخيرة. وهذه النتائج المرجوة والمتوقعة ستكون إيجابية بالنسبة لدول الجوار أيضاً والمجتمع الدولي عموماً، فرحبت العديد من الدول بهذا القرار وعلى رأسها اليمن والإمارات العربية المتحدة وتركيا وغيرها، كما تنظر العديد من الدول بإيجابية نحو القرار الذي سيدعم الكفاءة والفاعلية القتالية تجاه حركة "الشباب" المصنفة دولياً كتنظيم إرهابي.
لعل أهم دلالات هذا القرار هو نجاح الحكومة الصومالية في اكتساب ثقة المجتمع الدولي التي كانت مفقودة لعقود، حيث تسبب انعدام الثقة الدولية بالحكومة الصومالية في فرض الحظر منذ البداية، نتيجة المخاوف من وقوع الأسلحة المستوردة في أيدي القبائل الصومالية وحركة الشباب، والآن يأتي هذا القرار كإشارة على نجاح الحكومة الصومالية الفيدرالية في إثبات معالجتها لجوانب الضعف والفساد والتفكك الإداري والحكومي في مؤسساتها، وبالتالي استعادتها لثقة المجتمع الدولي بقدرتها على ضبط عملية استيراد ومراقبة الأسلحة النوعية والحديثة التي ستدخل في خدمة القوات الحكومية.
سيؤدي القرار أيضاً إلى تحقيق الاكتفاء الأمني الذاتي بالنسبة للصومال، واستعادة الدولة لسيادتها واستقلاليتها بشكل فعلي نتيجة تعزيز قدراتها العسكرية، وبالتالي استغناء الحكومة الصومالية عن الاعتماد على القوات الدولية المتواجدة على أراضيها، وهو ما سيسرع عملية انسحاب بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال (أتميس) في موعدها المقرر في شهر ديسمبر من نهاية العام الجاري دون مطالبة رسمية من الجانب الصومالي لتمديد بقاء قواتها.
لمعرفة مدى تأثير هذا القرار على المستقبل الأمني للصومال ودوره في تحقيق الاستقرار، يبقى الرهان على مدى قدرة الحكومة الصومالية على تطبيق تعهداتها تجاه المجتمع الدولي، والمتعلقة بضبط عملية استيراد الأسلحة وتوظيفها في المجالات المشروعة والمطلوبة، وأهمها مكافحة تنظيم "الشباب المجاهدين"، وأيضاً يعتمد تقدير مآلات القرار على تقييم النتائج المستقبلية للاشتباك بين القوات الحكومية وبين مسلحي حركة الشباب، ومعرفة مدى التغيير الذي أحدثه تطبيق القرار على قلب ميزان المعركة لصالح القوات الحكومية، ومدى تقهقر حركة الشباب وتراجع خطورتها وسيطرتها. ويبدو أن المسؤولين الصوماليين واثقين من قدرتهم على الإيفاء بمسؤولياتهم تجاه الرأي العام الوطني وأمام المجتمع الدولي، كما توحي تصريحاتهم بالتفاؤل حول قدرة الأسلحة النوعية والحديثة على تغيير مسار المعركة لصالح قوات الحكومة وتوجيه ضربات قاضية وحاسمة لمسلحي حركة الشباب المتطرفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.