على مر العصور كان يُنظر إلى مَن يقف بجانب الحق ويدافع عن المظلومين بعين الفخر والتقدير، ويُلقب من يدافع عن أرضه بالشريف، فالأرض هي العرض والشرف، أما من يقاتل مغتصبي حقه فهو فدائي وبطل فاق الأبطال الخارقين.
وللقضية الفلسطينية قداسة وأولوية حاضرة في قلب كل عربي ومسلم، ومن يدافع عنها فهو يدافع عن شرف الأمة.
هذا ما عهدناه وتربينا عليه في بلداننا العربية، لكن القيادات السياسية في عالمنا العربي يبدو أنها لم يعجبها كل هذه التوصيفات، فلطالما عملت على خلق مسميات وتوصيفات جديدة، خوفاً من أن تجرح كبرياء المحتل الذي فرض سيطرته عليهم وعلى أنظمتهم التي لم تنحَز لشعوبها يوماً.
ولا يخفى ذلك على أحد، إذ تميل أغلب وسائل الإعلام التابعة لتلك الأنظمة العربية إلى استخدام مصطلحات مائعة لتساوي بين صاحب الحق والمغتصب، بل أحياناً توجه اللوم إلى من يحاول أن يقاوم لاسترداد حقوقة، إذ ترى في شجاعته عجزها وخضوعها.
وفي أحيانِ أخرى قد يُتهم ذلك المناضل باتهامات أخلاقية مُشينة، بهدف تشويه سمعته وإبعاد الرأي العام عن الالتفات إليه ومحاولة السير على نهجه، وقد أصبح ذلك واضحاً مؤخراً وضوح العين.
في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة منذ يوم الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول، يعيش الشارع العربي حالة من الغليان نتيجة صمت الحكومات العربية وتخاذلها لما يحدث من مجازر بحق الشعب الفلسطيني بغزة. وبينما تذخر الأخبار بأرقام عدد الشهداء وصمود المقاومة، أعلنت القوات المصرية في 15 يناير/كانون الثاني 2024 إحباطها محاولة لتهريب مخدرات على الحدود المصرية الإسرائيلية، وأضافت أن القوات ألقت القبض على 6 أشخاص ادعت أنهم مهربو مخدرات جنوب معبر العوجة الحدودي المعروف في إسرائيل باسم معبر نيتسانا.
للوهلة الأولى ربما يظهر الحدث أمامنا وكأنه خبر عابر، لكنه يعيد الأذهان إلى واقعة الهجوم الذي شنه الجندي محمد صلاح قبل أشهر وأدى إلى مقتل 3 جنود إسرائيليين، خاصة أن موقع الاشتباكات جاء بالقرب من معبر العوجة، وهو نفس الموقع الذي شن منه الجندي محمد صلاح هجومه، إضافة إلى أن البيان الرسمي الخاص بهجوم يونيو/حزيران الماضي، تمت صياغته في نفس السياق، حين تحدث عن مطاردة الجندي المصري وقتها لتجار مخدرات.
الأمر الذي دفع العديد إلى التشكيك في صحة الرواية الرسمية المصرية، قائلين إن ما حدث على الحدود لا علاقة له بتجارة المخدرات، إنما له علاقة بالعدوان على غزة والأيام القليلة المقبلة ستكشف أبعاده.
لكن ما الدافع إذن وراء التشكيك في هذه الرواية، وماذا سيستفيد الجانب المصري بعد إخفاء الحقيقة ما حدث، وإذا من قام بالفعل بتنفيذ الواقعة مواطنون عاديون فلماذا يتم تشبيههم بتجار المخدرات؟
تأخذنا تلك الأسئلة للعودة لعام 1985، عندما كان جندي مصري يدعى سليمان خاطر يؤدي فترة تجنيده الإلزامية ضمن فرقة من قوات الأمن المركزي التابعة لجهاز الشرطة في محافظة سيناء، تحديداً في يوم الـ5 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام قرر ذلك الجندي إطلاق النيران على فوج إسرائيلي.
سليمان خاطر، ذلك الجندي الذي فوجئ أثناء قيامه بالحراسة بمنطقة رأس برقة بجنوب سيناء بمجموعة من الجنود الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته، والتي بها كشك يحتوي على أسلحة وأجهزة ومعدات لا يجوز لأحد أن يطّلع عليه، فما كان له إلا أن ينفذ الأوامر العسكرية ويطلق رصاصات تحذيرية، لكنهم لم يستجيبوا، فما كان له إلا أن يطلق النار عليهم ليحمي مقر خدمته.
وبدلاً من تكريمه والاحتفاء به كبطل شعبي دافع عن أرضه، خرجت رواية تدعي أن الجنود الإسرائيليين مجرد سياح إسرائيليين، لكن إذا كانوا ذلك بالفعل، فمن أعطى لهم الحق في التواجد في نقطة عسكرية، ولماذا لم يستجيبوا له؟ وما هي المزارات السياحية التي تتم زيارتها ليلاً هناك؟
كما أسرع الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، وقدم اعتذاراً لـ"إسرائيل"، وفوجئ خاطر بصدور قرار جمهوري بتحويله إلى محاكمة عسكرية.
ورغم أنه كان مجنداً تابعاً لقوات الشرطة؛ ما يعني أن محاكمته يجب أن تكون مدنية وفقاً لنص الدستور، غير أنه حوكم عسكرياً، وصدر ضده حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة 25 عاماً، في 28 ديسمبر/كانون الأول 1985 ورُحِّل إلى السجن الحربي بتهمة القتل العمد.
وأظهر خاطر في كلمته أثناء المحاكمة وعياً كبيراً ووطنية عالية، حيث قال: "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه، إنه قضاء الله وقدره، لكني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، فيصابون بالخوف وتُقتل فيهم وطنيتهم". ثم أعلن بعد صدور الحكم "أن هذا الحكم هو حكم ضد مصر، لأني جندي مصري أدى واجبه".
في المقابل، احتج الإسرائيليون على الحكم وأُرسلوا العديد من رسائل الاحتجاج، فحاولت الحكومة المصرية تبرير الموقف، من خلال إعلانها أن سليمان خاطر مجنون وغير مسؤول عن أفعاله، لنزع أي قيمة وطنية منه وللحيلولة دون مخاطبة الشعور المصري الوطني. ثم تم نقله إلى مستشفى السجن، بحجة علاجه من مرض "البلهارسيا".
يوم 7 كانون الثاني/يناير 1986، أعلنت الحكومة المصرية انتحار سليمان خاطر شنقاً داخل زنزانته، بعد تسعة أيام فقط قضاها في السجن، بينما أكدت شهادات من أشخاص عاينوا جثته أنه مات مخنوقاً بسلك بعد سحله وضربه، وتم العثور عليه مشنوقاً في زنزانته في ظروف غامضة.
كان هذا مصير سليمان خاطر وغيره من الذين ما ارتكبوا إثماً إلا محاولتهم الدفاع عن أوطانهم، فلمثل هذه الواقعة وغيرها تمنى كثيرون من المصريين أن يحظوا بلقب "تاجر مخدرات" من أجل غزة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.