منذ اليوم الأول لحربه على غزة فشل الاحتلال في الترويج لروايته الإعلامية المضللة حول ما وصفه بمجازر ارتكبها مقاتلو المقاومة بحق الأطفال والنساء في البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، فصارت روايات المتحدث باسم جيش الاحتلال محل سخرية واسعة عالمياً.
ومع تقدم أيام الحرب، انقلبت الشعوب والحكومات ضد دولة الاحتلال، وخرجت الشعوب في تظاهرات حاشدة بعواصم العالم إلى اليوم، ولم تعتَد مشاهد جرائم قوات الاحتلال حتى بعد مرور أكثر من 100 يوم على بدء العدوان.
بالتوازي مع إصرار الشعوب على إظهار تضامنها مع الشعب الفلسطيني، يستمر إصرار الاحتلال على استدامة الفشل وترويجه على أنه يحقق شيئاً، بينما يتكبد الخسائر العسكرية والسياسية يوماً بعد يوماً على يد شعب لا يملك غير أرضه وإيمانه بحقه.
يراكم الاحتلال فشلاً تلو الآخر منذ بداية الحرب على جميع المستويات واستكمالاً لمقالي السابق سألقي الضوء على أهم الإخفاقات والفشل في النقاط التالية:
1- يظهر الفشل المعنوي في حالة الارتباك في صفوف جيش الاحتلال التي تمنعه من تحقيق أهدافه والسيطرة على المناطق التي يتوغل فيها، علاوة على حالة الانهيار التي يعيشها الجمهور الإسرائيلي، والتي تثبتها المطالبات المتواصلة بوقف الحرب وإقالة الحكومة بسبب الشعور بحالة العجز بتحقيق أي هدف، لا سيما تحرير الأسرى.
2- أثبتت قدرات المقاومة على الصمود إلى هذه الفترة فشل إسرائيل في التعامل مع قطاع غزة على مدار العقود الماضية، بينما أثبتت نجاح وجدية المقاومة في مراكمة قوتها وتحقيق التفاف جماهيري كحركة تحرر؛ مما ساهم في صمودها إلى هذه اللحظة، كما تسبب هجوم 7 أكتوبر في ضرب فكرة إمكانية استمرار وجود دولة الاحتلال، وهو ما صرح به أكثر من مسؤول سياسي وعسكري إسرائيلي، وتأكيدهم أيضاً أن هذه المحركة تعتبر بالنسبة لإسرائيل مصيرية.
3- فشل الاحتلال الإسرائيلي بالحفاظ على الدعم الدولي المساند لحربها على القطاع، إذ انقلبت مواقف غالبية دول العالم ضدها، خاصة في ظل الجرائم التي ارتكبتها ضد المدنيين والأطفال والنساء في غزة، وعلى الصعيد الداخلي تتصاعد الخلافات بين أركان حكومة الاحتلال والتي وصلت إلى حد مطالبة أطراف سياسية وازنة بإقالة الحكومة، وهو ما يهدد استقرار البلاد.
4- الجبهة الداخلية في إسرائيل على شفا الهاوية، ويمكن الاستدلال على ذلك بإلقاء نظرة على التظاهرات الشعبية التي تضغط على الحكومة ومجلس الحرب الوزاري لإطلاق سراح الأسرى لدى المقاومة، خاصة بعد مقتل العديد منهم في عمليات قصف للجيش، كما ظهرت مطالبات شعبية في كثير من الأحيان تنتقد سلوك الحكومة، وتطالب بإقالتها ومحاكمة رئيسها ووزرائه.
5- تتواصل مؤشرات الاقتصاد الإسرائيلي بالتراجع مع تواصل حربها على غزة، حيث تراجعت نسبة الإنتاج بأكثر من 50%، كما أظهرت بيانات لمكتب الإحصاءات المركزي الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، أن اقتصاد الاحتلال نما في الربع الثالث من السنة أبطأ مما كان متوقعاً في البداية، ومن المتوقع أن يتراجع النمو بشكل حاد في الربع الرابع بسبب الحرب، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5% على أساس سنوي ما بين يوليو/ تموز وسبتمبر/أيلول، مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة، وبالتقدير السابق البالغ 2.8%.
6- معلومات شخصية تخص ملايين الإسرائيليين توزع يومياً عبر برنامج تليغرام، بعد اختراقات سيبرانية واسعة نفذها شبان عرب وفلسطينيون ضد مواقع وشركات وبنوك إسرائيلية، وكانت شركة "رادواير" (Radware) -وهي شركة إسرائيلية للأمن السيبراني- آخر ضحايا هذه الهجمات، وبحسب تقرير نشره موقع "سي تيك" (Ctech) المتخصص في التكنولوجيا، الشهر الماضي، نُفذت عملية خرق للبيانات من قِبل عمليات "سايبر طوفان الأقصى"، وهي مجموعة تم تشكيلها حديثاً، وذات دوافع سياسية، أُسست يوم 18 نوفمبر الماضي.
7- بعد استدعاء جنود الاحتياط للمشاركة في الحرب على غزة توقفت الحياة في دولة الاحتلال بشكل شبه كامل، ما أحدث انقساماً مجتمعياً بين من يطالب بوقف الحرب وعودة الجنود إلى أعمالهم خارج الجيش، ومن يدعو لمواصلة القتال والانتقام من الفلسطينيين، هذه الموجة من الانقسام حذرت مراكز أبحاث ودراسات إسرائيلية من أنها قد تحدث شرخاً مجتمعياً كبيراً إذا استمرت الحرب أطول.
8- لم تنجح دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد 100 يوم من حرب الإبادة والقصف المكثف غير المسبوق بعشرات آلاف الأطنان من القنابل والمتفجرات في إنهاء وجود حركة "حماس" أو التأثير حتى على قدرتها القتالية، وتواصل حركة "حماس" قيادة بقية فصائل المقاومة، والمشاركة في المفاوضات مع دولة الاحتلال بوساطة قطرية ومصرية، إضافة إلى تواصل عمل عناصرها وموظفي حكومتها على الأرض. وفي ظل العمليات المتواصلة للمقاومة الفلسطينية ضد القوات الإسرائيلية في جميع مناطق التوغل يتأكد فشل الجيش في تدمير البنية التحتية للمقاومة، خاصة على صعيد الأنفاق وشبكة الاتصالات. ومع استمرار الحرب يوماً بعد يوم، تذهب أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" التي حاولت "إسرائيل" ترويجها لجيشها على مدار العقود الماضية مع الرياح، وقد نسفت بالفعل هذه الأسطورة بشكل كامل يوم بدء عملية "طوفان الأقصى"، لكن نجاح المقاومة اليوم في الصمود وتكبيد الاحتلال خسائر بالغة تودع هذه الأسطورة إلى مثواها الأخير دون عودة.
9- استهلاك الذخيرة، حيث طلب الاحتلال جسراً عسكرياً جوياً من الولايات المتحدة الأمريكية بعد نفاد ذخيرته، خاصة من القذائف، وقالت وزارة الدفاع الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، في بيان، إنها تسلمت منذ بداية الحرب على غزة، أكثر من 10 آلاف طن من الأسلحة والمعدات الأمريكية، من بينها: مركبات مدرعة، وأسلحة، ومعدات حماية شخصية، ومعدات طبية، وذخيرة وغيرها، وشددت على أن الجسر الجوي والبحري الأمريكي يدعم الخطط الهجومية واستمرار القتال، من أجل ضمان تحقيق أهداف الجيش.
10- فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في أرض الميدان في مجاراة خطط المقاومة، علاوة على وقوعه في كمائن غير متوقعة، وهو ما أحبط معنويات جنود الجيش وجعلهم غير قادرين على اقتحام أحياء مثل الشجاعية ومخيم جباليا رغم حصارها وقصفها على مدار أسابيع.
11- فشل الاحتلال في تحييد جبهة لبنان من خلال التهديد بتنفيذ ضربات قوية ضد الدولة العربية، حيث استمر حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية هناك في تنفيذ هجمات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية، في تصاعد واضح للعمليات يومياً. بالإضافة لذلك، تم فتح جبهة اليمن التي أثرت بشكل كبير على دولة الاحتلال أيضاً، فجماعة "أنصار الله" (الحوثيين) نفذت العديد من الهجمات الصاروخية وبالطائرات المسيرة ضد مدينة إيلات الإسرائيلية، كما اختطفت سفينة إسرائيلية، ونفذت هجمات على عدة سفن أخرى في مياه البحر الأحمر كانت بطريقها لدولة الاحتلال، وصارت هذه الضربات مؤلمة للاحتلال؛ إذ تهدد الاقتصاد الإسرائيلي، وفي ظل حساسية وأهمية الممر البحري المحاذي للسواحل اليمنية بوصفه ممراً تجارياً دولياً، أصبحت أنظار العالم تعيد النظر بجدية في سلبيات العدوان الإسرائيلي على غزة؛ نظراً لما قد تكبده ضربات الحوثيين للاقتصاد العالمي في البحر الأحمر.
12- تعرضت القوات الأمريكية الموجودة بالقواعد العسكرية في العراق لعشرات الهجمات منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالصواريخ والطائرات بدون طيار، وذلك رداً على الموقف الأمريكي الداعم للحرب الإسرائيلية على القطاع، هذه الهجمات بدورها تشكل ضغطاً على الولايات المتحدة وكيان الاحتلال وتهدد المصالح الاستراتيجية في المنطقة للدولتين.
13- صارت المصالح الإسرائيلية الدبلوماسية في الشرق الأوسط والعالم في دائرة الاستهداف من جماعات مسلحة من جهة ومن الشعوب العربية والإسلامية من جهة أخرى؛ حيث تعرضت العديد من السفارات والمكاتب الإسرائيلية لمحاولات تنفيذ هجمات، كما تظاهر طوفان بشري أمام سفارات أخرى مثل الأردن.
14- بعد العدوان الإسرائيلي على غزة لم يعد هناك مكان آمن لليهود في العالم، فهم جميعاً باتوا في دائرة الاستهداف، بحسب ما تؤكد تقارير للخارجية الإسرائيلية، خاصة في ظل تصاعد الجرائم الإسرائيلية في غزة، وهو ما يزيد عبء الفشل على تل أبيب.
15- منذ بداية الحرب، دعا قادة إسرائيليون إلى تهجير أهالي قطاع غزة إلى صحراء سيناء المصرية، كما تم الكشف عن خطط إسرائيلية رسمية لذلك، لكن جميع هذه الخطط فشلت كلياً، حتى إن جيش الاحتلال لم ينجح في إخراج أكثر من 500 ألف فلسطيني من مناطق شمالي القطاع إلى الجنوب.
16- حاول الاحتلال الإسرائيلي في حربه النفسية ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتحريض الفلسطينيين في غزة على حركة "حماس"، لكنه فشل في ذلك بقوة، وظهرت عشرات مقاطع الفيديو التي كان تصور الفلسطينيين وهم خارجون من تحت القصف يهتفون للمقاومة ويؤكدون الالتفاف حولها ويطالبون بالانتقام من الاحتلال الإسرائيلي.
17- لا يملك الاحتلال خطة واضحة المعالم لمسار الحرب في القطاع ومدتها، علاوة على تغيير أهدافها في كل مرة، ففي البداية قالت إن عملياتها تقتصر على شمالي القطاع بوصفها منطقة عمل المقاومة الفلسطينية، لكنها بعد ذلك قالت إن مركز عملها هو مدينة خان يونس بالجنوب، وبدأت بعمليات عسكرية هناك، قبل أن تعود وتحاول التوغل بحي الشجاعية شرقي مدينة غزة ومخيم جباليا بالشمال. هذه العمليات التي تظهر كأنها عشوائية وبدون خطط واضحة تؤكد فشل دولة الاحتلال بتحديد مسار الحرب.
تلك العشوائية أدت إلى فقدان جيش الاحتلال مصداقيته داخل الشارع الإسرائيلي، وأصبحت جميع رواياته عن تدمير حركة "حماس" والقضاء على بنيتها التحتية وقياداتها مجرد "أكاذيب" من وجهة نظر الإسرائيليين، وذلك لأنه في كل مرة يتحدث الاحتلال عن ذلك تظهر المقاومة بصورة أقوى من قبل.
فعلى سبيل المثال، في بداية الحرب كانت حكومة الاحتلال ترفض مجرد الحديث عن مفاوضات مع حركة "حماس" من أجل تحرير أسراها، أو الدخول في هدنة إنسانية مؤقتة، أو إتمام صفقة تبادل، ولكنها توصلت إلى صفقة مع حركة "حماس" تم بموجبها الدخول في هدنة استمرت 7 أيام، والإفراج عن أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال.
في ظل استمرار عمى قادة الاحتلال المتطرفين وتمسكهم في مراكمة الفشل والدموية، تتصاعد المظاهرات العالمية ضد الاحتلال وتلك المؤيدة للفلسطينيين والرافضة للحرب على غزة، إذ شكلت المظاهرات العالمية في اليوم الـ 100 للعدوان تصاعداً لافتاً لحجم المشاركة، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
فبعد 100 يوم يجد جيش الاحتلال نفسه أمام تراكمات للفشل الميداني، والاستخباراتي والأمني والإعلامي، رغم إعلاناته المتكررة عن السيطرة على مواقع لحركة حماس وتفجير أنفاق يصفها بالاستراتيجية أو قتله لقادة ميدانيين في المقاومة.
يدع كل ذلك الفشل الاحتلال وقادته أمام تحديات عديدة، فلا هم يستطيعون وقف الحرب في ظل النتائج الميدانية الحالية، ولا بإمكانهم الاستمرار فيها بالصيغة التي كانت عليها، لأسباب، ميدانية، وإقليمية وأمريكية، ومن هنا جاء اجتراح صيغة "المرحلة الثالثة" التي أصبحت تحتل حيّزاً مهماً في الخطابَين السياسي والإعلامي الإسرائيلي، لكن هذا التعبير ينطوي على قدر من التوجيه، كونه يوحي بأن العدو أكمل المرحلتين السابقتَين، وقرر الانتقال إلى التالية في الطريق إلى تحقيق الأهداف الكبرى، في حين أن الواقع يقول إن هذا الانتقال جاء نتاجاً لتراكمات الفشل الآنف، والخّيبات، واستمراراً للحرب وفقاً لتكتيكات مختلفة. ومع ذلك، يواجه الخيار الأخير مجموعة من التحديات، من ضمنها عدم قابلية تسويقه في أوساط الجمهور الإسرائيلي، باعتباره خياراً مجدياً من شأنه أن يحقّق غايات القتال. فما لم يُنجَز عبر الهجمات المكثّفة، لا يمكن أن يتحقّق عبر العمليات هنا وهناك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.