بناءً على ترشيح من صديق عزيز، شاهدت أمس الفيلم الأمريكي "12 رجلاً غاضباً 12 Angry Men" الذي عُرض في عام 1957. والفيلم بحق من أفضل الأفلام الأمريكية رغم أنه بالأبيض والأسود، ورغم تصويره في غرفة ملحقة بمحكمة دون مشهد خارجي واحد، أو أي مشهد مثير. وتعود روعة الفيلم إلى حد كبير للقصة التي تعلمنا الكثير والكثير من الدروس الحياتية.
حبكة الفيلم
يبدأ الفيلم في محكمة أمريكية حيث يطلب قاضٍ من هيئة محلفين مكونة من 12 محكماً كلهم رجال أن يسلموه قرارهم بالإجماع باتهام أو تبرئة شاب متهم بقتل أبيه طعناً بسكين حاد في حي فقير. يجتمع الرجال الاثنا عشر في غرفة واحدة، وهم جميعاً متأكدون من أن المتهم قد قَتل أباه فعلاً وأنه يستحق عقوبة الإعدام. يحاول بعض المحكمين أن يُنْهوا اجتماعهم بسرعة والتصويت بإدانة الشاب، غَيْر أنَّ المحكم رقم 8 يطالبهم بالتفكير بعض الشيء في دوافع القتل، ويستطيع رويداً رويداً استمالة المحكم رقم 9 لصفه. تتصاعد أحداث الفيلم من خلال مناقشات حادة أحياناً وهادئة أحياناً أخرى ومحاولات جادة للوصول للحقيقة. بالطبع، تغلب النزعات الشخصية والخلفيات الثقافية لكل محكم على طريقة رؤيته للأمور. ولأنَّ المحكمين يأتون من خلفيات متنوعة وأعمار متباينة ووظائف تتفاوت تفاوتاً لافتاً على هرم السلم الاجتماعي، فقد أتت كل هذه الاختلافات بنتيجة محمودة وهي هدم الأدلة التي أدانت الشاب بقتل أبيه واحداً تلو الآخر. لكن، رغم توصل أغلب المحكمين لبراءة الشاب من خلال الأدلة العقلية والمنطقية، إلا أنَّ القرار النهائي بتبرئة الشاب لم يكن الوصول إليه ممكناً إلا بعد أن تَخَلَّى جميع المحكمين عن نزعاتهم الشخصية، وخاصة المحكم رقم 3 الذي كان مصمماً على إدانة الشاب المتهم لأن ابنه -ابن المحكم- كان قد ضربه على فكه ثم فَرَّ هارباً.
الدروس المستفادة من الفيلم
يمكن تلخيص الدروس المستفادة من الفيلم في النقاط الآتية:
1- لا تستهن برأيك إن كان مخالفاً لرأي الأغلبية، وحاول أن تثبت صحة رأيك لكن بهدوء وعقلانية. وهذا ما فعله المحكم رقم 8 تماماً. فلو كان قد انفعل أو تعصب لرأيه دون ذكر الأسباب المنطقية لما استطاع استمالة محكم تلو الآخر، ولنفذ حكم الإعدام في المتهم الشاب.
2- لا تقلل من احترام رأي كبار السن وحاول أن تستفيد من حكمتهم. ففي الفيلم، استطاع المحكم رقم 9 الطاعن في السن أن يظهر دقة ملاحظته في الحكم على أحد شهود القضية -وهو من كبار السن كذلك- وأوضح دوافع مبالغته في الشهادة ضد المتهم من خلال الزعم بأنه قد سمع المتهم وهو يهدد أباه بالقتل رغم بُعْد المكان الذي كان فيه عن الشاب وأبيه، ورغم مرور قطار في نفس الوقت الذي ارتطم فيه جسد الأب المقتول بالأرض. واستطاع المحكم رقم 9 كذلك أن يثبت أن الشاهدة الوحيدة في القضية كانت تلبس نظارة رغم أنها لم تحضر للشهادة بالمحكمة وهي ترتديها، وكان هذا دليلاً كافياً للشك في رواية هذه الشاهدة التي قالت إنها رأت الشاب وهو يطعن أباه ليلاً بعد أن استيقظت من النوم مباشرة من خلال عربات القطار الذي كان يمر أثناء طعن المتهم لأبيه، وهذا أمر مستبعد تماماً.
3- لا تجعل أهواءك الشخصية تؤثر على قراراتك، وكن عادلاً. فقد بدا المحكم رقم 3 منذ بداية الفيلم عازماً على إدانة الشاب المتهم فقط لأنه ذَكَّرَه بابنه العاق. وحتى بعد أن ظهر جلياً للمحكم براءة المتهم أو على الأقل شكه في أنه هو من قتل أباه، ظَلَّ مصمماً على إدانة الشاب حتى اضطر تحت تأثير آراء بقية المحكمين لأن يغير رأيه.
من الأهمية البالغة في أي نظام قضائي أن تكون هناك هيئة مستقلة تراقب عمل المسؤولين الرسميين من قضاء ونيابة ومحامين لتراجع أي شبهة في عمل الجهات الرسمية وصولاً للعدالة. فلولا هيئة المحكمين في الفيلم (وهو موقف مشابه للواقع) لنُفِّذَ في الشاب المتهم حكم الإعدام. وللعلم، يرجع تاريخ هيئة المحكمين لنظام اللفيف في الفقه المالكي، وهو نظام إسلامي استعارته بريطانيا أولاً قبل أن تتبناه بقية المستعمرات البريطانية، وما أحوج الدول الإسلامية له الآن!
تعجبتُ وأنا أتابع هيئة المحكمين وهي تفند أدلة الاتهام واحداً تلو الآخر، وتساءلتُ: هل كان المحامي المسؤول عن الدفاع عن الشاب المتهم عاجزاً عن الوصول لدليل واحد من مجموع الأدلة التي توصلت لها هيئة المحكمين؟ لكن التعجب زال عندما علمتُ أن الشاب المتهم لم يكن بمقدوره تحمل تكلفة محامٍ خاص، فاعتمد على محامٍ عينته المحكمة له. والدرس المستفاد هنا: لا تعتمد على محامٍ لم تَدفع له.
البناء الكبير يعتمد في الأساس على التفاصيل الصغيرة، فلولا اهتمام المحكمين بالتفاصيل لما توصلوا للحقيقة وهي تبرئة المتهم، رغم أن ظواهر الأمور بدت مقنعة تماماً. فرغم وجود شاهدين في القضية، ورغم أنَّ أقوالهما تثبت إدانة المتهم بالقتل، لكن البحث في الظروف الصحية للشاهدين من قدرة على التحرك بسرعة من غرفة نوم بعيدة عن مسرح الجريمة (وهذه حالة الشاهد الطاعن في السن والعاجز عن المشي بخفة)، والرؤية بوضوح ليلاً مع التعود على لبس نظارة طبية (وهذه حالة الشاهدة)، مع الأخذ في الاعتبار التوقيتات التي ذكرها كل شاهد ومطابقتها على واقع أقوال وأفعال المتهم، بجانب الاستشهاد بأحراز القضية المودعة بالمحكمة (السكين ومخطط السكن الذي وقعت فيه الجريمة)، كل هذه التفاصيل ساهمت في التوصل لاستحالة إثبات التهمة على المتهم. وفي الحياة، نحتاج لهذا المنظار الشامل للنظر في كل الأمور حتى نصل لحقيقة كل القضايا التي ننظر فيها.
هذه بعض الدروس المستفادة من فيلم "12 رجلاً غاضباً"، وأحسبها جديرة بإقناعنا بأن السينما الراقية يمكن أنْ تغير حياتنا للأفضل وتنمي لدينا مهارات التفكير الناقد، وما أحوجنا إليه في العالم العربي الآن!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.