يشهد الشرق الأوسط تزاحماً دبلوماسياً غير مسبوق، ليس لوقف الحرب على غزة، بل لمنع تمدد هذه الحرب وتحولها إلى حرب إقليمية تخلق تهديداً وجودياً لإسرائيل. وفي وقت سابق صرّح وزير الخارجية الأمريكية بأهداف جولته الشرق أوسطية التي من المقرر أن تشمل 8 دول، حين قال إنها تركز على منع تمدد الحرب وإنه ينتظر من الحلفاء أن يرسلوا رسائل إلى إيران في هذا الشأن. كما قال الناطق باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إنه لا بلد لديه مصلحة في حصول تصعيد بالمنطقة.
إن التحليل المنطقي للتصريحات الأمريكية هو أننا نريد أن تستفرد إسرائيل بشعب غزة كي تقوم بإبادة جماعية دون تدخل من أي أحد، وبدلاً من الدعوة إلى وقف إطلاق النار بشكل فوري والدعوة إلى إيصال المساعدات الإنسانية إلى أكثر من مليوني شخص يعيشون أوضاعاً إنسانية صعبة، تقرر الولايات المتحدة بإدارة بايدن، أن تقتصر الجولة في الشرق الأوسط على منع تمدد الحرب، ومناقشة ملف الأسرى الإسرائيليين الذي نسفته إسرائيل بعد عملية اغتيال الشيخ العاروري.
هذه الدولة هي التي قوضت جميع جهود مجلس الأمن الدولي لإقرار مشاريع قرارات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، كما يجب أن لا ننسى أن القرار الأخير الذي صدر عن مجلس الأمن قامت الولايات المتحدة بتأجيله لأكثر من ثلاثة أيام، متعنتةً ومتمسكة بضرورة تبديل مصطلح وقف إطلاق النار إلى مصطلح "توسيع المساعدات الإنسانية". والمثير للاهتمام هو أن الولايات المتحدة لم تصوّت بـ"نعم" على هذا القرار المخفف للغاية، بل امتنعت عن التصويت!
على أي حال، يبدو أن المقصد الرئيسي لهذا التزاحم الدبلوماسي هو "لبنان"؛ وذلك لأن جبهة لبنان هي الجبهة المرجحة للاشتعال بشكل أكبر من غيرها، وذلك بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على السيادة اللبنانية والأراضي اللبنانية. يقرأ المسؤولون الغربيون التصريحات القادمة من لبنان بعناية تامة، خصوصاً أن حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، صرّح بأنّ حزب الله لن يستخدم عبارة "الانتقام في الزمان والمكان المناسبين"، وذلك في إشارة إلى أن الرد لن يتأخر وسيكون في القريب العاجل.
من المهم جداً تأكيد أن حزب الله أطلق اسم "الرد المبدئي" على اغتيال الشيخ صالح العاروري، على العملية التي نفذها ضد قاعدة "ميرون" الإسرائيلية. حيث قام حزب الله بإطلاق 62 صاروخاً بشكل مباشر على القاعدة الإسرائيلية للمراقبة الجوية، وتعتبر رشقة الصواريخ هذه هي الأكبر منذ تبادل إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023. إنّ وصف هذه العملية بالرد المبدئي أو الأوَّلي يعني أن الرد مؤلف من سلسلة من الهجمات المباشرة ضد المواقع الإسرائيلية، وهذا يعني أيضاً احتمالية تحوُّل هذه المواجهات المحدودة إلى مواجهات مفتوحة وأكثر اشتعالاً. وهذا بالضبط ما دفع جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إلى زيارة لبنان ولقاء كبار المسؤولين اللبنانيين من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش "جوزيف عون ورئيس البرلمان نبيه بري؛ ليؤكد في جميع اللقاءات ضرورة منع تمدد الحرب.
في الحقيقة يعوّل الأوروبيون والولايات المتحدة على الانقسام الداخلي في لبنان لمنع فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل، فأحزاب المعارضة وعلى رأسها "القوات اللبنانية"، تصر على حصر الوجود المسلح في الجنوب بالجيش اللبناني والقوات الدولية؛ لمنع إسرائيل من الاستمرار في خروقاتها، بحسب تصريحات سابقة لسمير جعجع. وقبل الحرب على غزة، كان البطريرك "الراعي" يشدد على ضرورة قبول حزب الله في الفضاء السياسي اللبناني، وأن حزب الله جزء من أي حادثة تقع في لبنان، وهذا الموقف ساهم بظهور خلافات مع "القوات"، إلا أن حرب غزة واحتمالية فتح الجبهة الجنوبية بشكل أوسع جعلتا البطريرك يصرّح بأن "لبنان مصون من الحرب مع إسرائيل بقوة قرار مجلس الأمن رقم 1701″، مشدداً على أنه "على الجميع أن يتقيد به؛ منعاً لامتداد الحرب إلى لبنان رغماً عن إرادة اللبنانيّين المحبّين لوطنهم وللسلام في ربوعه".
بناءً على جميع ما تقدم، تظهر أهمية السؤال التالي وضرورة الإجابة عنه من قبل الأطراف اللبنانية، وهو: هل نجح أو سينجح قرار مجلس الأمن 1701 في حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية؟
باختصار شديد، القرار 1701 هو القرار الذي تبناه مجلس الأمن في أعقاب حرب تموز (يوليو) 2006 بين لبنان وإسرائيل، ويدعو إلى وقف العمليات العسكرية بالكامل، وإيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من المسلحين والمعدات الحربية عدا تلك التابعة للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل. بمعنى آخر تؤكد هذه القوى ضرورة انسحاب حزب الله من المنطقة الجنوبية بعمق 10 كيلومترات إلى الوراء. ولكن الاستناد إلى هذا البند وحده في عملية الصراع اللبناني الإسرائيلي يغفل نقاطاً عديدة تجعله عاجزاً عن حماية لبنان من إسرائيل بشكل فعلي:
أولاً: ما تريده إسرائيل ليس منطقة عازلة، بل هي تريد منطقة خالية من السكان والجيش اللبناني وكل شيء. هي تحاول خلق منطقة عازلة جديدة على حدودها الشمالية.
ثانياً: يهمل من يستند إلى نص القرار 1701، البنود الأخرى المهمة التي تمتنع إسرائيل عن تنفيذها، وهي مثلاً: تسليم إسرائيل إلى الأمم المتحدة خرائط حقول الألغام التي زرعتها في لبنان، وكذلك وقف الاعتداءات على الأراضي اللبنانية، وترسيم الحدود، خصوصاً تلك المناطق التي تغتصبها إسرائيل مثل مزارع شبعا.
ثالثاً: كيف يمكن تفسير عمليات الاغتيال التي نفذتها وتنفذها إسرائيل في العاصمة اللبنانية بيروت في ظل هذا القرار؟ ثم يجب القول إنّ إسرائيل تقوم بانتهاك السيادة الوطنية اللبنانية من خلال اختراق الأجواء اللبنانية لتنفيذ ضربات جوية سواء في الداخل اللبناني أو لضرب الأراضي السورية، وهذا أيضاً انتهاك صارخ للقرار 1701.
ختاماً، إن الحل المنطقي الوحيد لوقف تمدد الحرب وتوسعها إلى الأطراف الإقليمية الأخرى والذي يتجاهله عن عمدٍ جميع من يزور المنطقة من القادة الأوروبيين أو المسؤولين الأمريكيين، هو وقف الحرب الظالمة على غزة، ولتحقيق هذا الهدف يجب الضغط على إسرائيل لوقف أعمالها العدائية والإبادة الجماعية ضد شعب قطاع غزة الأعزل. كما على هؤلاء القادة أن يعلموا جيداً أن الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية هي من يدفع إلى توسع الحرب، فلا أحد في هذه المنطقة يملك رفاهية الحرب أو يرغب فيها، ولكن السكوت عن هذه الاعتداءات يعني مزيداً من الاغتيالات والتصفيات وانتهاك السيادة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.