لم يكن مقترح المرحلة الثالثة من الحرب على غزة مقترحاً إسرائيلياً، إذ إن الإسرائيليين فقدوا صوابهم بشكل كامل بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لقد كان هذا المقترح مقترحاً أمريكياً بامتياز، وهو مقترح تم بناؤه على أسس وتقارير المخابرات الأمريكية التي توصلت إلى نتيجة، مفادها أن الحرب الإسرائيلية في غزة مقدمة لانتحار عسكري للاحتلال الإسرائيلي.
لقد قامت الإدارة الأمريكية بتحليل جميع الخطط العسكرية الإسرائيلية التي قامت على أساس تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق؛ شمالية وجنوبية ومنطقة الوسط، وشاهدت الولايات المتحدة فشل هذه الخطة بأم أعينها، فعلى الرغم من مرور 3 أشهر على الحرب على قطاع غزة فإنه لا أحد يستطيع القول بأنّ إسرائيل تسيطر على كيلومتر متر واحد آمن بقطاع غزة لا في شمالها ولا في جنوبها؛ وذلك لأنه وعلى الرغم من الوجود العسكري المكثف في بعض المناطق الشمالية من قطاع غزة، فإن هذه المناطق تشهد اشتباكات مع كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، مما يخرجها من دائرة السيطرة إلى دائرة الاشتباك بالمفهوم العسكري.
وتقوم فكرة المرحلة الثالثة من الحرب، على أساس سحب القوات البرية المقاتلة من قطاع غزة إلى محاور أبعد، ومن ثم العمل على خلق منطقة عازلة لمنع هجمات المقاومة على مستوطنات الغلاف، ومن ثم ستقوم القوات الإسرائيلية بتكثيف الضربات الجوية النوعية ضد القطاع، وستعمل بشكل مكثف على اغتيال قادة المقاومة. ويبدو أنّ الولايات المتحدة أدركت استراتيجية نتنياهو في إطالة أمد النزاع، للبقاء في منصبه وتجنب المحاكمات الخاصة سواء بالنسبة لقضايا الفساد أو بالنسبة للفشل أو الإخفاق الاستخباراتي والعسكري واللوجستي بعد عملية طوفان الأقصى، وعليه فقد فعَّل كل من الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة استراتيجية الاغتيالات خارج حدود الأراضي الفلسطينية.
لعل من أهم عمليات الاغتيال التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة كان اغتيال الشيخ صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والمسؤول الأول عن نشاط حماس في الضفة الغربية، وتمت عملية الاغتيال في بيروت، حيث كسر الاحتلال قواعد الاشتباك القديمة والجديدة بشكل كامل، لتدخل المنطقة في مرحلة حبس الأنفاس في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع، خصوصاً في الجبهة الجنوبية من لبنان.
وبعد يوم واحد على اغتيال العاروري قامت الولايات المتحدة باغتيال شخصية بارزة بحركة النجباء التابعة للحشد الشعبي في بغداد. وأثناء تحليل سياق هاتين العمليتين، فإننا سنرى أن الأهداف مختلفة؛ فالولايات المتحدة تحاول (دون الانخراط في حرب مفتوحة) استعادة معادلات الردع ضد الجماعات المسلحة غير الحكومية المدعومة من إيران بعد أن سقطت هذه المعادلات بعد "طوفان الأقصى"، حيث شنّت هذه الجماعات مئات الهجمات ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، بينما يحاول الاحتلال الهروب من مأزق غزة بحثاً عن صورة انتصار يبيعها لشعبه.
وعلى الرغم من أن الأوساط الإعلامية تتحدث عن أن إسرائيل لم تخطر الولايات المتحدة بعملية اغتيال العاروري، فإنه في أثناء التنفيذ سارعت الولايات المتحدة لاحتواء هذا الموقف عبر الجهود الدبلوماسية وهي تدرك أن لدى إسرائيل رغبة جامحة في جر قدم الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية متعددة الأطراف تخدم المصالح الإسرائيلية، ولذلك قام مستشار شؤون الطاقة في وزارة الخارجية الأمريكية، والوسيط في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي آموس هوكشتاين، بتعجيل زيارته لبيروت بعد أن كانت مقررة في النصف الثاني من شهر يناير/كانون الثاني. يحدد هوكشتاين أهدافه من هذه الزيارة بهدفين اثنين هما: تحريك مسألة الحدود البرية مع إسرائيل، وتطبيق القرار 1701. ونحن نرى أنّ أهداف زيارة المبعوث الأمريكي تتجاوز هذه الأهداف العلنية، وتأتي في سياق الحيلولة دون توسيع نطاق الحرب، وهذا بالضبط ما دفع وزير الخارجية بلينكن إلى القيام بجولة في الشرق الأوسط استهلها بزيارة تل أبيب.
كعادته يمارس المبعوث الأمريكي سياسة العصا والجزرة في تعامله مع لبنان، إذ إنه قد يحمل مقترحات تتعلق بالمعضلات الداخلية اللبنانية كاقتراحات جديدة فيما يخص منصب رئاسة الجمهورية، حيث قد يطرح معادلة جديدة تقود فرنجية إلى قصر بعبدا إرضاء لحزب الله. وما يعيب هذا المقترح هو أن مرشح المعارضة اللبنانية جهاد أزغور يبدو أنه يتخلى شيئاً فشيئاً عن الترشيح بعد أن تحول دعم جبران باسيل إلى البيسري. ولذلك فإن حزب الله وحلفاءه لا يرون في أي خطة من هذا النوع امتيازاً مقابل التهدئة، خصوصاً أن عملية اغتيال العاروري في بيروت تأتي كخرق لكل قواعد الاشتباك التي فرضتها حرب 2006، وهو أخطر عمل تنفذه إسرائيل منذ ذلك الوقت.
مراراً وتكراراً، هدد الاحتلال الإسرائيلي لبنان بأنه إذا لم ينسحب عناصر حزب الله إلى ما قبل نهر الليطاني، فإن الاحتلال سيتخذ إجراءً عسكرياً بدلاً من الإجراءات الدبلوماسية، ويعتقد الإسرائيليون أن عملية اغتيال العاروري تمكنهم من فرض شروطهم عبر الوسيط الأمريكي إلى لبنان، ولذلك فهم يسعون لخلق منطقة عازلة أخرى في الجبهة الشمالية تكون هذه المنطقة خالية من السكان وعناصر حزب الله بشكل كامل. وتقوم استراتيجية هوكشتاين للتهدئة على أن يقنع إسرائيل بالتخلي عن بعض النقاط الحدودية مع لبنان مثل النقطة "ب1" في رأس الناقورة والتي احتلتها إسرائيل قبل انسحابها من لبنان في عام 2000، وكذلك الانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والشق اللبناني من بلدة الغجر.
جميع ما تقدم كان من الممكن تحقيقه في ظل ظروف طبيعية إلا أن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وعمليات الاغتيال لقادة حماس في وسط بيروت ستحول دون أن يصل هوكشتاين إلى أي نتيجة؛ وذلك لأن امتناع حزب الله عن الرد على هذه العملية يعني تغير قواعد الاشتباك إلى الأبد، ويعني بالضرورة أن الاحتلال الإسرائيلي يحتفظ لنفسه بإمكانية اختراق الأجواء اللبنانية متى أراد، ولذلك فلا نرى أي إمكانية لتهدئة أوضاع الجبهة الشمالية لإسرائيل، ويدرك حزب الله والحكومة اللبنانية على حد سواء، أن الشرط الأساسي الذي يجب أن يتمسكوا به مقابل هذه التهدئة هو وقف الحرب الغادرة على قطاع غزة، وكل شيء غير ذلك هو مجرد تحايل للاستفراد بقطاع غزة وأهله وتفادي الانتقام للشيخ صالح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.