بالنسبة لي تركت سنة 2023 الكثير من التفاصيل التي لم يتركها غيرها، هذه السنة بالتحديد كانت كافيةً للاستفاضة في سرد حقائق حولنا يصعب التغاضي عنها وإنكارها.
سنة 2023 جعلتنا ننظر إلى أنفسنا بنظرة حيادية مجردة وأكثر منطقية، نظرة لا يشوبها أكثر مما شابها، أن هذا العالم انقسم، حيث لا نعيش نحن البشر في على الأرض نفسها؛ إذ لا نتشارك نفس القيم والمعنى.
سنة 2023 جعلتني أؤمن بأن القوة التي عليها أهل فلسطين تستحق منّا أن نعرف فعلاً كيف هو الإيمان بمعناه الحقيقي والمجازي، وأن من يحمل السلاح في وجه الطُغاة لا بد أن نقف له احتراماً؛ لأنه يمنع الجبناء من التمادي في سرقة ما استباحوا سرقته ونهبه.
جعلتنا سنة 2023 نتعرف على حقيقة هذا العالم المصطنع، بخطاباته الفارغة، وساداته الذين يظنون أنفسهم قد نُصبوا آلهة فوق الأرض، الذين رأوا الدماء ولم يتحركوا، والذين شاهدوا الفوضى ولم تُزعجهم، والذين أصدروا فرماناتهم الساذجة لاستكمال كل شيء، دون حتى النظر لما سيُخلّفه هذا الفرمان في مقتل الأبرياء.
من وجهة نظري الشخصية، لطالما كنت أنظر دائماً إلى حقيقة ثابتة: لما يدعيه الغرب عن المساواة والحرية وحقوق الإنسان التي يحصرها على نفسه، التي لطالما استخدمتها المؤسسات الغربية كبطاقة للعبور على أجسادنا، بحجة أن الرجل الأبيض يمتلك الاقتصاد الأقوى والعلم الأغزر والقوة العسكرية ذات النفوذ القادر على الفتك بنا.
الغرب لا يحمل قيمه معه خارج حدوده
الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي
عرَّت فلسطين القيم الغربية وازدواجيتها في كل شيء، وكرة القدم ككل شيء في الحياة يصيبها ما يصيب العالم والبشر، فأدركنا أن احترام الاختلاف وتقبل الآخر بالطرق الغربية لا يتعديان كونهما فلكلوراً لا قيمة له، فكم رأينا احتفاء المؤسسات الرياضية باللاعبين العرب والمسلمين، لكن فور أن يتخطى أي لاعب هذه المساحة التي خُصصت له من أجل التحدث عن نفسه، أو دينه، أو أي عُرف خاص به؛ فإنهم ينهشونه نهشاً، ويتهمونه بتُهم لا أحد يعلم من أين أتت ولا كيف حدثت ولا حتى متى بدأت؟!
كان أبرزهم أنور الغازي، اللاعب الذي غزا قلوب الشعوب العربية التي تبحث عمن يجسد قيم التضحية والتضامن، فعلاً وقولاً، فأعلن عن موقفه بوضوح بتأييد ودعم الشعب الفلسطيني في نضاله، لكن ذلك لم يُعجب ناديه الألماني، ففسخ عقده، فانكشفت تلك العقلية العنصرية الكامنة في الدولة التي تدعي أنَّها تمتلك اليوم مجموعةً من القواعد والقيم الأخلاقية المخالفة لتلك العنصرية النازية التي قد أنجبتها للعالم من قبل، دولة تاريخها ينضح بالدماء، واليوم تريد أن تغسل جرائمها والتخلص من عقدة الذنب بسفك دمائنا نحن.
ولم يكن ذلك غريباً؛ هذه الرؤية العنصرية لنا كعرب وأبناء الجنوب رأيناها وعرفناها بصورة واضحة منذ عام أو أكثر، بالتحديد في الفترة الشتوية من نهاية عام 2022، حينما أقيمت بطولة كأس العالم في قطر.
حين استطاعت قطر أن تُنظم البطولة على أكمل وجه، دون أن تسمح بتلويث الهوية والثقافة العربية بالأفكار الاستعمارية الغربية، فوقفت للجهات الغربية ومَن والاها ومنعتهم من فرض سلطتهم على منشآت الدولة العربية وثقافتها.
فمنعت قطر أعلام المثلية الجنسية، ورفضت أن تتم الإشارة لذلك بأية صورة وبأي حال من الأحوال، وحاولت قطر أن تمنعهم من إدراج هذه الأفكار التي فرضوها علينا من خلال الجولات والوقفات الرسمية لدعم مثل هذه الأمور التي تتنافى مع القيم الدينية، وكذلك فطرتنا الإنسانية.
بينما يدّعون احترامهم للآخر والحريات وتقبّل الثقافات المختلفة ما يَلبَسون أن يضربوا بكل هذه الادعاءات في أقرب حائط، فحين كانوا يخصصون جولات لدعم المثلية؛ بل ويحددون لها بشكل رسمي وثابت شهراً ويوماً من كل عام لدعمها، ووضع شارات الدعم على أذرع قادة الفرق في بطولات مثل الدوري الإنجليزي الممتاز، يقفون بالتهديد والعقوبات ضد من يرفض أن يرتدي شارة تتنافى مع قيمه الدينية والأخلاقية. وفي تحدٍّ سافِرٍ لحرية اللاعب وفِكرة يُحاسبونه، ويبحثون عمّا وراء قراره، مثلما فعلوا مع إدريسا جاييه، لاعب نادي باريس سان جيرمان الفرنسي ومنتخب السنغال منذ موسمين في فرنسا، وفي كل مرة يطفو هذا الأمر على السطح يجدون وسيلةً لاتهامه مهما كلفتهم هذه الوسيلة من عناء.
وبالطريقة نفسها طلبت الدول الغربية أن يتم البحث وراء رفض قطر والجهات العربية لقبول هذه الأمور، خلال كأس العالم، وسعوا بشتى الطرق لأن يفرضوا تلك العنجهية الأوروبية، من خلال التلاعب بالقوانين تارةً، ومن خلال إطلاق سلاح التُّهم المحضَّرة مسبقاً كالتطرف واستخدام العمال، ونبذ الغير، وعدم تقبل الآخر، وغيرها من أفعالٍ لَطالما كان الغرب أهلاً لها، ورغم كل ذلك وقفت قطر لهذه العنجهية الغربية بكل صرامة، وصنعت كأس عالم تمثلنا نحن.
اعتادت الجهات الأوروبية حتى في كرة القدم، طوال الوقت، أن تُشكل العالم بالطريقة التي تختارها هي فحسب، ليس فقط على حساب النطاق العربي، بل حتى على النطاق الآسيوي والأمريكي في قارتَي أمريكا الجنوبية والشمالية كذلك، واعتبرت أوروبا نفسها هي المُصدِّر الرئيسي لكل شيء، داخل أو خارج الكرة، وكل القارات التي تُناظرها لا بد من أن تهزّ رأسها بالموافقة أو تصمت في حالة الرفض!
لم تكن قطر الوحيدة التي وقفت أمام تلك العنجهية الغربية، فإندونيسيا، تلك الدولة التي تدين الغالبية العظمى من شعبها بدين الإسلام، والتي أعلنت تضامنها بشكل رسمي وحاسم في الأشهر القليلة الماضية مع فلسطين بوقفاتٍ احتجاجية واسعة، ورفض مستمر وقاطع، وكذلك تنظيم العديد من المظاهرات للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة؛ هي إحدى الدول التي رفضت هذا الاحتلال من بدايته لنهايته.
ورفضت إندونيسيا في بطولة كأس العالم للشباب في صيف عام 2023 أن تستقبل منتخب الاحتلال الإسرائيلي، بل إن الفنادق في إندونيسيا كذلك تمسكت بالقيم الإنسانية، ورفضت بشكل واضح المصالح الاستثمارية والعوائد المادية التي تأتي من وراء هذا الاحتلال.
وبالطبع كالعادة لم يتأخر الاتحاد الدولي لكرة القدم، المعروف باسم الفيفا، بأن يحرم إندونيسيا من حق استضافة البطولة على مقربة من بدايتها، واتجهت البطولة فيما بعد إلى الأرجنتين، التي لم تُمانع في قبول ما رفضته إندونيسيا، واستطاع فريق الاحتلال في البطولة الدولية، وبقيادةٍ لمنتخب أغلبه من ذوي البشرة السمراء الأفارقة الذين جنسوهم، وكذلك الجالية العربية التي أغروها بالمال، الوصول إلى نصف نهائي البطولة.
هذه التفاصيل المهمة تجعلنا نُدرك أن العالم حتى في كرة القدم ينقسم إلى نحن وهُم؛ نحن الذين نحترم ثقافتنا وقيمنا الدينية والأخلاقية، رافضين لأي أفكار تحط من قدر الإنسان، وهُم الذين اختزلوا الإنسان في جانبه المادي، فطغت العنصرية على مؤسساتهم ورؤيتهم، فأباحوا كل شيء نظير المكاسب المادية من وراء ذلك، حتى قبول أية مصلحة مشبوهة بهدف التربح منها، وإدراج الاحتلال الإسرائيلي في مساحات ما كان له أن يدخلها إلا عن طريق المصالح الاستثمارية لقياداته، التي حاولت أن تشتري كل ما يُمكن شراؤه، لكنها أبداً لم تستطع حتى الآن أن تشتري شيئاً يُمكن له أن يجعلنا ننظر لهم بصورة نقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.