"لا أريد أن أبكي في القبر أو في الجنة أو في الجحيم، أريد أن أبكي هنا، لأقول لهم إني حي، وإنهم يؤلمونني، وإنني لن أغفر لهم، أريدهم أن يخافوا من بكائي، لأن عليهم أن يعرفوا أن عليهم أن يدفعوا ثمن هذا البكاء".
دبابة تحت شجرة عيد الميلاد
في يوم ما في مدينة أنقرة التركية، أتذكر أنه كان في فصل الصيف، تعرفت على صديقي المصري محمد، وبدأنا بعد السلام بالحديث عن الأدب دون مقدمات، فحينها كنت متحمساً أثناء كتابتي لرسالة الماجستير.
لا أعلم أكان ولعي حينَها بالحديث عن الأدب، أم لأنه كان لقائي الأول بأدب شرقي لم أذُقه؟ فرغم أن كل ما يحيطنا شرقي في ذلك المقهى الذي اعتدت أن ارتاده، كان حديثي مع باقي أصدقائي الآتين من بلاد شرقية أيضاً عن الروايات الغربية وأشعارها، إلى أن قابلتُ محمداً، ذلك الشاب الذي تقول ملامحه وروحه كل شيء عن الشرق، فكان هادئاً، لكنه ما إن يتحدث عن شيء ولو بدبلوماسية ولباقة شديدة تدرك أنه يخفي ثائراً تحيطه العاطفة، تحدثت معه عن الأدب، وبالطبع سألته عن آخر رواية قرأها فأجابني: "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد"، للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، وكان هذا أول لقاء لي بكاتب فلسطيني عن طريق صديقي.
عند بداية قراءتي لإبراهيم نصر الله، وروايته "زمن الخيول البيضاء"، تعلمت أن القضايا الكبرى تلزمها مستويات فنية عالية للتعبير عنها، فمن حق القارئ أن يشتري كتاباً لأنه جيد، لا لأن عقله أو قلبه مع تلك القضية. وقد برع إبراهيم نصر الله في رسم تاريخ فلسطين في حكايات تمت حياكتها بإتقان وحرارة شديدين، فنجده في رواية "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد" يروي حال فلسطين على مدى 75 عاماً، بدءاً من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، متتبعاً ما عاشته فلسطين من تحولات عن طريق تتبع عائلة بكافة أجيالها، مدققاً ومحللاً موضحاً أحوال المجتمع، فتشعر وكأنك تتجول بين البيوت الفلسطينية أثناء مواجهة الاحتلال، حيث ينقلنا بخفةٍ وعمق في الوقت نفسه بين بيت ساحور، وبيت لحم، والقدس، وغيرها من المدن الفلسطينية.
وبقدر ما هي رواية عن المدينة الفلسطينية وتاريخها المستمر ضد الاحتلال، بقدر ما هي حكاية عن الحب، ورواية عن الموسيقى، والغناء، والفن، والثقافة، وثقافة الشعب الفلسطيني، إنسانياً ونضالياً وجمالياً، والدور المسيحي في النضال الفلسطيني، وتجلياته المختلفة.
تتسلل الرواية برشاقة في أروقة تاريخ فلسطين، تتبع تداخلات الحياة والصراعات الزمنية التي شهدتها الأرض الفلسطينية منذ بدأت الحرب العالمية الأولى، ثم نهاية حكم الإمبراطورية العثمانية، لتمر بفترة الاستعمار الإنجليزي، وكوارث النكبة والنكسة، وصولاً إلى ذروة الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
مسرح هذه الأحداث القاسية يموج بين أسوار القدس وبيت لحم، وتتركز بشكل أساسي في بلدة بيت ساحور ذات الأغلبية المسيحية، الملاصقة للقدس. ترصد الرواية بعناية فائقة تحولات الحياة الاجتماعية والثقافية والنضالية في هذه البلدة، حيث يتوق الإنسان إلى استعادة حياته الطبيعية دون قيود وتدخّل من قِبل المحتل القاسي. تعرِض الرواية بشمولٍ معاناة الأهالي، مواجهين التهجير والتنكيل والتعذيب، في مشهد يروي قساوة فنون الوحشية الإسرائيلية.
تستعرض القصة بأسلوب جذاب وممتع حياة بيت ساحور، حيث يكمن توازن الإنسان بين رغبته في التعبير عن جمال الحياة ومواجهة سيطرة المحتل الذي يعارض كل مظاهر الإنسانية. تتجلى المأساة في السمة المحظورة على الفلسطيني، سواء أكانت إيمانه أو أصله أو مكان إقامته.
هكذا يصبح بيت ساحور مسرحاً لقضية أكبر تتعدى حدودها الجغرافية، فتُشكل مساحةً لصراع بين الخير والشر، حيث يقسم الناس بين فريق يرى فيها مسرحاً للرّعب، فيبطش بأهلها، وفريق هو صاحب الأرض والحق، يتمسك بكل ما هو له في تلك الأرض. تتجلى المدينة كمسرح لأزمة إنسانية، تبحث عن حل في ضمير الإنسانية، وتعبّر عن معاناة البشرية المتعلقة بالحق والخير والجمال والحرية والعدالة.
يتسارع تطوُّر الشخصيات بشكل متزامن مع المدينة، حيث تأتي شخصية إسكندر كمثال، فتتجلى عبر فصول الرواية، وأولاده وأحفاده، وجيرانهم، وأصدقائهم، الذين ناضلوا وضُربوا وسُجنوا، أحبوا وتزوجوا، وقاوموا المحتل بكل الوسائل الممكنة. كذلك تتماشى مع هذا تفاصيل مدينته بكل تعقيدات أيامها تحت الاحتلال، حيث ينسجم الزمن بسلاسة، كأنه جوهر خفي وخفيف يتجاهله كل من أهل المدينة والمحتلون.
تبرز هذه الرواية إلى استقرار الهوية الفلسطينية الأصيلة رغم الاحتلال وتقلبات العالم حولها، حيث تعبر بيت ساحور عبر الزمن، رغم قسوة الاحتلال، ويظل أهلها أقوياء دون أن تنطفئ شعلة حبهم لوطنهم. يتجسد هذا كإيمان وفكر وجودي، يعبر عن رسالة إبراهيم نصر الله، التي يضعها في كل رواياته: نحن هنا الآن، وسنبقى هنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.