ليس من الغريب أن يتم اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني من قِبل الموساد الإسرائيلي، فالمتتبع لسيرة كنفاني يعلم أن أعماله الأدبية لا تخلو من الحث على العمل الفدائي وترسيخ مفهوم المقاومة، فبحسب رأي غسّان، ما من سبيل لاسترداد أرض فلسطين بأي طريقة أخرى سوى النضال، فهو الطريقة الوحيدة المجدية للدفاع عن فلسطين، لذلك ظل الاحتلال ينظر لقلمه وأعماله وأفكاره النضالية الخالدة، على كونها خطر يحدق به.
يُعَد غسّان كنفاني من بين الأدباء الذين خطوا أسماءهم بحبر مقاوم في تاريخ الأدب العربي المعاصر. إذ يتبادر إلى الذهن، عند ذكر اسمه، حجم ما قدمه من التضحيات والكفاح من أجل فلسطين. وفي روايته الرائعة "عائد إلى حيفا"، يفتح كنفاني نوافذ الفهم نحو القضية الفلسطينية بطريقة فريدة. فمن خلالها استطاع أن يتناول مفهوم العودة إلى الوطن بعقلانية متجددة ورؤية فريدة، حيث اعتبر الوطن ليس مجرد ذاكرة تاريخية، بل قضية نضالية حية، تستوجب التأمل في مجموعة من الرؤى المستقبلية.
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط.. أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل" غسان كنفاني, عائد إلى حيفا
تدور أحداث هذه الرواية على أرض حيفا، أو بالأحرى، على الطريق المؤدي إليها، حيث يقرر بطل الرواية سعيد، أن يخوض رحلة العودة إليها برفقة زوجته، بعدما فتحت الحدود بين الأراضي التي احتلتها إسرائيل والضفة الغربية، مباشرة بعد نهاية حرب عام 1967.
ينسج كنفاني خيوط السرد بأنامله الماهرة، ويستعرض بيت الزوجين الذي تركاه خلفهما في عام 1948، والطفل الرضيع الذي تركاه مجبرَين يومها، ليعودا بعد سنين ظنا فيها أنه مات، ليجداه قد أخذته عائلة يهودية مستوطنة ربته وأعطته اسم دوف، وعلمته العبرية حتى صار عمره عشرين عاماً، ويخدم في جيش الاحتلال.
بوصوله إلى حيفا، أدرك سعيد، ، أن حلم العودة إلى حيفا كان مجرد تصّور خاطئ، إذ لا يزال بعيداً تمام البعد عن العودة إلى حيفا الحقيقية، فحيفا المحتلة الماثلة أمامه لا تشبه التي يعرفها في شيء سوى الاسم، على الرغم من كون حيفا هي حيفا، لم تتغير كثيراً، وبيته الذي تسكنه عائلة يهودية ظل على حاله بكل سجاده.
يقدم كنفاني رؤيته السياسية بشكل واضح ودرامي شيق، فنجده يقول على لسان سعيد للمرأة اليهودية بعد أن علمت أنهما صاحبا البيت الأصليان "طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب"، إذ لطالما رأى أن الوطن لا يُسترد إلا بالقوة كما سُلب بالقوة، فهو يعي تماماً أن فلسطين لم يخسرها العرب خلال مناظرة نقاشية.
لذلك يمكن قراءة كل أدب كنفاني على أنه سرد لحقيقة القضية الفلسطينية، فكل أعماله بشكل واضح ترفض أي طرق لاسترداد فلسطين بالحوارات السياسية التي تنتهي بالتفاوض، وفق متطلبات مصالح القادة السياسيين، فالقضية الفلسطينية لا يمكن أن تُكسر قيودها إلا بالحرب.
رواية "عائد إلى حيفا" من أبرز روايات غسان كنفاني، ورغم أنها قصيرة وموجزة، فإنها عميقة؛ إذ تأخذ طابع المحاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهومَيْ العودة والوطن. وهي من دون شك تعبّر عن واحدة من أكبر مآسي فلسطينيي 48، وما يتعرضون له من طمسٍ للهوية. تلك الهوية التي تضيع بين قرابة الدم وانتماء التربية، فماذا لو وُلد المرء فلسطينياً، لكنه تربّى وسط أسرة يهودية وتعلّم في مدارس إسرائيلية، ثم خدم في الجيش الإسرائيلي؟ هل سيبقى فلسطينياً، أم يصبح إسرائيلياً؟ فهذا بالضبط ما يود فعله الاحتلال، وهو طمس الهوية الفلسطينية، ومحو الذاكرة والتاريخ وممارسة التطهير العرقي لأهل هذا البلد.
من ينظر للرواية بعمق أكثر، سيدرك أنها لا تقتصر على فلسطين فقط، بل ترتبط بتحرير الإنسان، إذ ترى في الإنسان قضية. ويظهر غسان في الرواية أن الحرية المسلوبة يمكن استعادتها بالمقاومة والنضال المستمر.
لقد سار غسان كنفاني في طريق المقاومة الكاملة، واستطاع في روايته أن يقصّر المسافات بين اللغة والواقع، فطوّع الكتابة لتصبح عملاً نضالياً تغير من حياة القرّاء، فلا يستسلمون للواقع، وأثبت أن كل طرق النضال تؤدي إلى التغيير، حتى ولو بواسطة تطويع الكلمة والرواية. ولذلك كان على غسان كنفاني أن يواجه مصير الاغتيال الذي وقّعت عليه بنفسها رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.