تعثرت حركة الشحن في أحد المسارات المهمة للتجارة العالمية، إذ أعلنت كبرى شركات التجارة البحرية في العالم إحجامها عن استخدام الممر البحري الذي يمر عبر مضيق باب المندب وقناة السويس، والذي تمثل الحركة التجارية فيه نحو 12 % من حجم التجارة العالمية. وقد جاء ذلك بعد أن أعلن الحوثيون عزمهم على استهداف السفن المتجهة لإسرائيل حتى إشعار آخر. وفي أعقاب ذلك، إطلاق الولايات المتحدة لتحالف بحري دولي عسكري لتأمين المنطقة تحت اسم "حارس الازدهار".
ويقتضي إغلاق هذا الممر البحري لجوء السفن إلى طريق "رأس الرجاء الصالح" وطرق المحيط المتجمد الشمالي. ولهذه الأزمة تأثيرات عدة على التجارة العالمية. فاضطرار السفن إلى مسار بحري أطول يتوقع أن يتسبب في تأخير كبير في أوقات تسليم الشحنات التجارية، وزيادة في أسعار البضائع. ويتوقع كذلك أن يكون للأزمة عواقب سلبية على الولايات المتحدة والغرب لارتفاع أسعار النفط، بينما سيؤدي ذلك إلى زيادة إيرادات الدول المصدرة للنفط "أوبك بلس"، وربما تعزيز نفوذها على الدول الغربية.
وعلى الرغم من أن الأزمة لا تزال في بدايتها، فإن الجهات الفاعلة المهمة في التجارة العالمية، وخاصة الولايات المتحدة، سرعان ما اجتمعت وشكَّلت قوة عمل عسكرية، وقالت إن هذه الخطوة تأتي في سياق التصدي لآثار الأزمة وضمان الأمن في المنطقة.
واقع الأمر أن هذه الوضع شديد الخطورة على الاقتصاد العالمي، فالتداعيات لا تقتصر على زيادة أسعار النفط، بل يطال تأثيرها زيادة أسعار الشحن، وتكاليف نقل المنتجات الأخرى. فضلاً عن أن الأزمة تدفع بالتجارة العالمية إلى منعطف حرج، وقد تجر العالم إلى صراع عسكري. لكن هذه الأزمة ليست مستقلة بنفسها عما يحدث في غزة، ولا منفصلة عن السياق المرتبط بها، بل هي أزمة تستند إلى عوامل عدة، ويتأثر تشكُّلها بأطراف دولية مختلفة، ويرتبط بها طبقات متفاوتة من التداعيات.
شركات النفط العملاقة تتجنب البحر الأحمر
أوقفت شركات النفط العملاقة (نحو 10 شركات) عبور ناقلاتها عبر طريق البحر الأحمر. ويعني هذا القرار أن هذه الشركات ستعتمد على طريق "رأس الرجاء الصالح"، الذي يدور حول قارة أفريقيا، ويزيد طوله على مسار البحر الأحمر بنسبة تبلغ 40 %. وينم هذا القرار عن فداحة الخطر المحدق بالاقتصاد العالمي، لا سيما إذا أعقبته زيادة أسعار النفط. ومسار البحر الأحمر بالغ الأهمية للاقتصاد العالمي، بل هو في الواقع الطريق المركزي للنقل والتجارة في العالم. ومع ذلك كله، فقد صار الآن عرضة للوقوع في أزمة عسكرية عالمية.
وبطبيعة الحال، فهذه الأزمة ليست مستقلة عن غيرها من الأزمات التي يشهدها العالم، بل هي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأزمة في غزة. ويمكن لبعضهم أن يصف هذا التحرك في البحر الأحمر بأنه عملية عسكرية شرعت فيها الولايات المتحدة وإسرائيل للسيطرة على المنطقة.
في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، عُقدت قمة المناخ "كوب 28" في دبي. ويمكن الزعم أن هذه القمة شهدت أزمة ناجمة عن خلاف بين طرفين. فبينما دعت الدول الداعمة لعدوان إسرائيل على غزة إلى تقليص حاد لاستهلاك الوقود الأحفوري، وفرض ذلك على باقي الدول، وجعله هدفاً لها. رفضت الدول العربية المجاورة لغزة، فردَّت بأنها ليست في وضع مناسب حالياً لمثل هذا التغيير. وقد نشأت أزمة صغيرة النطاق بعد تصريح بعض الدول بأنه يتعذر إجراء خفض كبير في إنتاج النفط عما قريب.
إلا أن هذه الأزمة تعكس تباين المصالح بينها وبين إسرائيل وحلفائها، إذ اتضح أن إسرائيل والغرب لا يهتمون إلا بمصالحهم، ولذلك لم يحصل "تحالف الازدهار" الغربي في الأساس على شرعية إقليمية تذكر، بسبب الغياب العربي عن المشاركة. فلم توافق أي قوة في المنطقة على إشراك قواتها البحرية. والدولة العربية الوحيدة المشاركة هي مملكة البحرين الصغيرة، أما بقية العواصم في المنطقة فلم تحرك ساكناً.
ويرجع عدم رغبة الدول العربية في المنطقة التورط في أفعال ضد الحوثيين تفادياً لأي تصعيد محتمل من قبلهم، بالإضافة إلى أن استمرار إسرائيل في حربها على غزة قد يُظهر انضمام تلك الدول لهذه المبادرة وكأنه تأييد منها لهذه الحرب.
بينما لا ترى إسرائيل إلا مصالحها، فتسعى إلى إحاطة نفسها بمساحة أمان أوسع نطاقاً في ظل اقتراب الحرب على غزة من نهايتها. فبجانب تأمينها البحر تريد إبعاد حزب الله اللبناني نحو 10 كيلومترات من حدودها الشمالية. وقد أيدتها الولايات المتحدة في ذلك. ثم تجلت هذه الرغبة في سبيل آخر تبتغي فيه إسرائيل توسيع نطاق أمنها في الطرق البحرية بالمنطقة.
عملية حارس الازدهار
وكانت أرسلت الولايات المتحدة سابقاً لأول مرة حاملة الطائرات النووية "يو إس إس دوايت أيزنهاور" قبالة سواحل البحر الأحمر. ثم أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، عن إطلاق عملية "حارس الرخاء". وكانت فرنسا وإنجلترا أول دولتين أعلنتا دعمهما للعملية. ويوضح اسم العملية أن شغلها الشاغل هو الأمن والاقتصاد. وقد أعلنت الولايات المتحدة أن 10 دول أخرى انضمت للمشاركين في العملية وهي: المملكة المتحدة والبحرين وكندا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا وسيشيل وفرنسا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة. وغابت عن التحالف قوى إقليمية مؤثر في المنطقة مثل السعودية ومصر والإمارات.
بينما جاء ردَّ إيران جريئاً على ذلك بإنشاء قوة تعبئة بحرية قوامها 55 ألف رجل. وجاء رد آخر من اليمن، مفاده أن التحالف الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة لن يردع الحوثيين، وأنهم سيواصلون مؤكدين أنهم لن يهاجموا سوى السفن المرتبطة بإسرائيل أو تلك المتوجهة أو القادمة منها، ما إن استمر عدوانها على قطاع غزة.
مشاركة مستغربة من ألمانيا
قالت مصادر إن إعلان ألمانيا عن مشاركتها في عملية "حارس الرخاء" أربك السياسة الداخلية في البلاد، فرغم ما صرح به كل من وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة حديثاً بأن الجيش الألماني يعاني عجزاً كبيراً في الأفراد والمعدات. وإذا أضفنا إلى ذلك ارتباط ألمانيا بتعهدات تقديم الدعم لأوكرانيا، تزداد الحيرة بشأن طبيعة الدعم الذي يمكن أن تقدمه ألمانيا في هذه المهمة الدولية.
إلا أنه من المؤكد أن هذه العملية، التي تدعي الولايات المتحدة أن الغاية منها هو أمن المنطقة، لا تبشر بأي أمن أو رخاء. فكلما أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل قوة عسكرية ونشرتها في منطقة ما، فإن هذه المنطقة تبتعد عن الرخاء 20 عاماً على الأقل. وقد جرَّب العالم ذلك في العراق وأفغانستان.
علاوة على ذلك، فإن هذه الطريق لا تقتصر أهميتها على الإسهام في التجارة الدولية، بل إنها تنطوي كذلك على خطوط فاصلة معينة بين القوى العالمية. ولذلك، أنشأت الصين -على سبيل المثال- قاعدة لها في جيبوتي القريبة من مضيق باب المندب. ومن ثم، فقد بدا أن قرار الولايات المتحدة إنما هي خطوة تريد بها الضغط على جميع القوى لحماية نظام "السلام" المصطنع الذي أنشأته، والذي لا يعمل إلا لإنعاش إسرائيل وازدهار رخائها على حساب المنطقة.
الأمور لم تحسم بعد
يزعم بعضهم أن هذه الأزمة في البحر الأحمر لن تستمر طويلاً. وربما يبدأ الاعتماد على رأس الرجاء الصالح والمحيط الشمالي في وقت قريب. فقد ثبت – في سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال- أن تعطيل نشاط الشركات الكبرى يُسبب خسائر للجميع.
والخلاصة أن الفوضى لها طبقات عدة تتفاقم بها ومن خلالها. والاقتصاد إحدى هذه الطبقات، والنقل التجاري كذلك، والطاقة والنفط طبقة ثالثة، والحرب والصراع على الهيمنة في الشرق الأوسط طبقة رابعة، وهكذا. وقد بات الجميع يدرك الآن أن إسرائيل تريد استخدام الحرب على غزة لإعادة صياغة وضعها في المنطقة، وترسيم منطقة أكثر أماناً من حولها. ومن ثم، فإن هذا الوضع قابل للتفاقم إلى أزمة متعددة الأطراف تتأثر بالتفاعلات المعقدة في المنطقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.