إغلاق ويكيبيديا العربيَّة دعماً لغزَّة.. كيف يتشكل التضامن الرقمي من أجل فلسطين؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/12/24 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/24 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش
ويكيبيديا - shutterstock

أعلن مُجتمع ويكيبيديا العربيَّة على الصفحات الرسميَّة بمواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك وإكس يوم 21 ديسمبر/كانون الأوَّل 2023، أنَّ مُحرري الموسوعة وإدارييها والزملاء كافَّة المُتطوعين فيها اتفقوا على إغلاقها وحجبها يوم 23 ديسمبر/كانون الأوَّل 2023، بحيثُ لن يُسمح لأحدٍ بأن يُحرر حرفاً بأي مقالة، وسيُبدل مُحتوى الصفحة الرئيسة بقالبٍ أسود يعلوه شعار الموسوعة، مُتوشحاً بعلم فلسطين وكوفيَّتها؛ وذلك دعماً لغزَّة ورفضاً لاستمرار العدوان الإسرائيلي على أهلنا وأبناء جلدتنا. وسرعان ما هرعت بعض المواقع الإخباريَّة وصفحات القنوات وبعض المُفكرين والناشطين العرب والمُسلمين إلى تغطية هذا الموضوع.

ترافق هذا الإعلان والحجب نفسه مع جُنُون اللوبي الصهيوني في ويكيبيديا الإنجليزيَّة وتعليقاتٍ ساخرة أو مُثبطة من بعض صهاينة العرب ومن الانهزاميين، إضافةً إلى إعلانات كوميديَّة من طرف أشخاصٍ إمَّا يجهلون ويكيبيديا وأُسس التحرير فيها، أو رغبوا في رُكوب الموجة وفي الوقت نفسه الإساءة إلى الموسوعة! والأهم أنَّهُ قوبل بالتأييد والتهليل من غالبيَّة الجُمهُور العربي والمُسلم المُتابع لحسابات ويكيبيديا العربيَّة على منصَّات مواقع التواصل الاجتماعي، بل قوبل بالتأييد من قِبل بعض المُجتمعات الويكيبيديَّة غير العربيَّة والإسلاميَّة، وعلى رأسها: ويكيبيديا القطلونيَّة، والبشكنشيَّة (البسكيَّة). وتبقى أغلبيَّة مُؤيِّدة صامتة.

كيف بدأت القصَّة؟

ذكرت في مقالٍ سابق أنَّ المُجتمع الويكيبيدي العربي رفض رفضاً قاطعاً "الحياديَّة" بنكهتها الغربيَّة بُعيد عمليَّة طوفان الأقصى حين ضرب الإعلام الغربي معايير المهنيَّة والموضوعيَّة والمصداقيَّة بعرض الحائط، وسعي اللوبي الصهيوني إلى نشر روايته المُزوَّرة والمُدلسة على النُّسخ اللُّغويَّة الكُبرى لويكيبيديا مثل الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، ومُحاولة بعض الحسابات الإسرائيليَّة العبث وفرض الرواية "الحياديَّة" على ويكيبيديا العربيَّة وعلى رأسها "قتل حماس لأطفالٍ إسرائيليين"، فتماسك المُجتمع العربي وحال دون ذلك، اللُّهمَّ إلَّا بعض المُساهمين المشهورين بسلبيَّتهم والذين لا يرون ضيراً من الوصول لصيغةٍ "مقبولة"، لكنَّ رأيهم لم يؤخذ بعين الاعتبار. 

ولا أُبالغ حين أقول إنَّ كثيراً من أفراد المُجتمع الويكيبيدي العربي كانوا يتحرَّكون لفعل شيءٍ يُظهر تضامننا مع أهلنا في غزَّة، مُدركين تمام الإدراك أنَّ هذا ليس أضعف الإيمان، بل هو دون ذلك، لكنَّه يظل واجباً ثُمَّ يظل واجباً ثُمَّ يظل واجباً. وكان هُناك تخوُّف من أن تحول مُؤسسة ويكيميديا دون ذلك بدعوى الحيلولة دون دعم الإرهاب وما إلى ذلك من عبارات فارغة اعتادها الجُمهُور العربي والمُسلم، والحمدُ لله أنها سقطت وزال ثقلها بيد الاحتلال نفسه والداعمين له.

علماً بأنَّ عدَّة نُسخ لُغويَّة أُخرى تفاعلت مع وضعٍ شبيه، ألا وهو الغزو الروسي لأوكرانيا، بأن غيَّرت ألوان شعارها الكُروي ليُماثل ألوان العلم الأوكراني، وعلى رأسها ويكيبيديا الأوكرانيَّة وشقيقتها الجورجيَّة، ولم ينتطح في ذلك عنزان، لكننا توقعنا أن يختلف الأمر حينما يتعلَّق بفلسطين والصراع العربي الإسرائيلي. 

بناءً على ما تقدَّم، طلب المُجتمع الويكيبيدي العربي اجتماعاً مع الرئيسة التنفيذيَّة لمُؤسسة ويكيميديا، السيِّدة ماريانة إسكندر، وحضره ممثلون يشهد لهم المجتمع المذكور بالكفاءة وحُسن السيرة، وتحدثوا فيه عن رغبة الويكيبيديين العرب في إظهار تضامنهم مع إخوانهم بفلسطين، وإعلان ذلك على الصفحة الرئيسة للموسوعة، دون أن يتسبب ذلك بمُشكلات للمُجتمع العربي مع المُؤسسة ذاتها، أو يتسبب للمُؤسسة بمُشكلاتٍ قانونيَّة، وأعلنوا أنَّ هذا حقٌ من حُقُوق المُحررين العرب، تماماً كما كان حق المُستخدمين الأوكرانيين والغربيين أن يُظهروا تضامنهم مع أوكرانيا، وإلَّا فإنَّ المُؤسسة تُخالف أحد أهم مبادئها، وهو الوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من جميع المُجتمعات الويكيبيديَّة، وتكيل بمكيالين كما وسائل الإعلام الغربيَّة.

والحقيقة أنَّ مؤسسة ويكيميديا كانت قد راسلت جميع الويكيبيديين العرب والإسرائيليين حينما ازداد العدوان حدَّة، مُعلنةً أنَّها لا تدعم أي طرف وأنَّها تقف مع المدنيين ومُستعدة لتقديم يد العون إن أمكنها. لكنَّ المُجتمع العربي ظلَّ في ريبةٍ من هذا وقرَّر قطع الشك باليقين. أجابت الرئيسة التنفيذيَّة للمُؤسسة بأنَّ كُل مُجتمع ويكيبيدي حُر التصرُّف وفق ما يراه مُناسباً، وأن يُعالج مُشكلاته وأُموره بنفسه طالما أنَّ الغالبيَّة توافقت على ذلك، شرط أن لا يتعارض ذلك مع أُسس المُؤسسة أو يُعرِّضها لمُساءلةٍ قانونيَّة من طرف الحُكُومة الأمريكيَّة. أي يُمكن للمُجتمع العربي أن يُظهر تضامنه وتعاطفه مع غزَّة بأي وسيلةٍ يراها مُناسبة، شرط أن لا يُعلن تضامنه مع حركة حماس التي تُعدُّها الولايات المُتحدة جماعة إرهابيَّة وتمنع التعامل معها، أو أن يدعو إلى القضاء على الإسرائيليين وإبادتهم، لأنَّ ذلك يصب في خانة "مُعاداة الساميَّة". 

أمام هذا الأمر، دعا أفرادٌ من مُجتمع ويكيبيديا العربيَّة إلى وضع شريطٍ في أعلى صفحات الموسوعة يُظهر تضامننا مع غزَّة، ثُمَّ عُدِّلت الفكرة وتقرَّر أن يُزال مُحتوى الصفحة الرئيسة ويُستبدل بقالبٍ يُظهر رسالةً من أفراد المُجتمع ترفض استمرار العدوان، ثُمَّ تطوَّرت الفكرة وتقرَّر أن تكون الرسالة أشد وأقوى، فيراها ويشعر بها العدد الغفير من العرب والعارفين بالعربيَّة الذين يتصفَّحون الموسوعة يوميّاً، وذلك بأن تُعطَّل إمكانيَّة تعديل جميع الصفحات لأربعٍ وعشرين ساعة؛ احتجاجاً على المجازر المُستمرَّة. وهكذا أدخل الزُّملاء التقنيُّون بعض الرُّمُوز والنُّصُوص البرمجيَّة التي أخرجت جميع الحسابات المُسجَّلة من الموسوعة، وعطَّلت التعديل فيها، بحيثُ وصل عدد التعديلات في ويكيبيديا العربيَّة يوم 23 ديسمبر/كانون الأوَّل 2023 إلى صفر! وظهر قالبٌ أسود على الصفحة الرئيسة نصَّ على: "تضامناً مع حق الشعب الفلسطيني: لا للإبادة الجماعية في غزة.. لا لقتل المدنيين.. لا لاستهداف المستشفيات والمدارس.. لا للتضليل والكيل بمكيالين؛ أوقفوا الحرب، وانشروا السلام العادل والشامل".

رُدُود الفعل:

آتت هذه الحركة أُكُلها في اليوم ذاته، فإلى جانب التفاعل الإعلامي الواسع المذكور سلفاً، لوحظ ازدياد عدد الحسابات المُسجَّلة في ويكيبيديا العربيَّة، ولو أنَّها كانت غير قادرة على التعديل. فإنَّ عدد حسابات المُستخدمين التي تُفتح يوميّاً في ويكيبيديا العربيَّة يتراوح بين 250 و350 مُستخدماً جديداً، أمَّا في يوم الحظر وحده، فقد فُتح 600 حساب جديد حتَّى زمن كتابة هذه السُّطُور، ولا شكَّ في أنَّ بعض هذه الحسابات تشجَّعت للمُشاركة في الموسوعة بسبب موقف مُجتمعها، وأُخرى صُهيونيَّة تسعى للتخريب وإثارة البلبلة (قد نرى مُحاولاتها حين رفع الحظر)، وغيرها أتى من نُسخٍ لُغويَّة مُختلفة ليطَّلع على إعلان التضامن. 

جُنَّ جُنُون اللوبي الصهيوني في مشاريع ويكيميديا المُختلفة مع تطبيق هذا الحظر وإعلان تضامن المُجتمع الويكيبيدي العربي مع أهلنا في غزَّة، ولا أُبالغ أبداً حينما أقول "جُنَّ جُنُونهم"، فإنَّ مثيرين بل الأغلبيَّة لم تقوَ على إخفاء غطرستها وعُنصريَّتها وعدوانيَّتها تجاه العرب والمُسلمين، بعد أن كانت تسترها بخبثٍ كبير طيلة سنوات. في أحد الأمثلة قيل إنَّ الإعلان سخيف؛ لكونه لا يُدين حماس و"يُخالف حياديَّة مشروع ويكيبيديا"، وفي مثالٍ آخر طالب أحدهم بشطب شعار ويكيبيديا المُتشح بعلم فلسطين وكوفيَّتها بحجه أنَّهُ "يُخالف سياسة العلامات التجاريَّة لويكيبيديا"، علماً بأنَّ هُناك آلاف النُسخ المُشتقَّة من شعار ويكيبيديا، وأنَّ الشعار نفسه منشور تحت رخصة المشاع الإبداعي. وأضاف إسرائيليُّون في مقالة ويكيبيديا العربيَّة بالموسوعة العبريَّة فقرةً تُترجم إلى: 

"وفي عام 2023، تتوسع الانتقادات الموجهة إلى ويكيبيديا العربية بسبب إنكار مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول في إسرائيل. في 23 ديسمبر/كانون الأول، تم تعتيم" الصفحة الرئيسية لويكيبيديا العربية لمدة 24 ساعة دعماً لسكان غزة ودعوة لإسرائيل (لوقف الإبادة الجماعية في غزة)، وتم تغيير شعار ويكيبيديا العربية إلى ألوان العلم الفلسطيني".

أمَّا بعض ما أتحفنا به مُستخدمون إسرائيليُّون فقول أحدهم: "أتمنى أن ننجح في احتلال قطاع غزَّة بأكمله، والتدمير الكامل لحماس، وجعل قطاع غزَّة حليفاً لإسرائيل كما كان الحال مع اليابان والولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية". وقول آخر: "أعتقد أن الرئيسة التنفيذية الحالية لمؤسسة ويكيميديا، ماريانة إسكندر، والرئيسة التنفيذية السابقة، كاثرين ماهر، كلتاهما مؤيدتان للفلسطينيين، والسؤال الذي يطرح نفسه هو من يختارهما؟ ومن يقف خلفهما؟"، وقال غيرهما: "هل لدى المؤسسة أي فكرة عما إذا كانت (ويكيبيديا العربية) تستحق أن تكون مشروعاً شقيقاً بين مشاريع ويكيبيديا؟".

أمَّا من بعض العرب، فأحدهم استهزأ بالحجب على صفحة فيسبوك الرسميَّة لويكيبيديا العربيَّة، بحُجَّة أنَّ ويكيبيديا العربيَّة خالفت "الحياديَّة" في هذه المسألة تماماً كما فعلت حينما خالفتها في مقالاتٍ تتناول أحداثاً "إرهابيَّة" جرت في بلاده خلال الربيع العربي… وأمَّا المُتخاذلون فقد وصف أحدهم على منصَّة إكس هذه الخطوة بالحمقاء، وأنَّ الأولى كان أن يدفع مُجتمع المُحررين إلى "ماراثون" تحريري عوض هذا الحجب! 

الحالات الكوميديَّة:

ظهرت بعض الحسابات خلال ساعاتٍ من إعلان الحظر ادَّعت أنَّها اخترقت ويكيبيديا العربيَّة وخربتها تضامناً مع غزَّة، مع أن الموسوعة أعلنت أنها تتبرَّع لإسرائيل، واللطيف أنَّ بعضها لاقى تشجيعاً وثناءً من أصدقائه أو مُتابعيه، بل إنَّ الخبر نُشر في أحد المواقع على أنَّه حقيقة.

ما بعد الحجب:

تُعدُّ هذه الخُطوة سابقة في تاريخ ويكيبيديا العربيَّة، والحركة الأقوى حتَّى هذا اليوم في إظهار موقف المُجتمع العربي من القضيَّة الفلسطينيَّة، وأننا لسنا مُجتمعاً يُدار من الصهاينة، وأننا انعكاسٌ لمُجتمعاتنا وأهلنا وناسنا، نحمل هُمُوم أي إنسانٍ عربيّ ومُسلم، وعلى رأسها همّ إخواننا في فلسطين، ولن نتردد أبداً في نُصرة هذه القضيَّة بما أوتينا من إمكانيَّات، وإننا نُدرك أنَّ حركتنا هذه ليست أضعف الإيمان، بل هي دون ذلك، لكننا مؤمنون أشدَّ الأيمان بأنَّ أوَّل الغيث قطرة، وإن شاء الله هذه القطرة مُقدِّمة طوفانٍ عظيم. 

ولا شكَّ في أنَّ الاحتلال وداعميه سيُحاولون العبث بويكيبيديا العربيَّة ومُحرريها بعد هذه الخُطوة، فقد قال أحدهم: "إذا كان هناك أي شيء، فسيكون من المفيد القيام (بهجوم عالي الجودة) على ويكي العربية وتحسينه لصالح البشرية". لكنَّ المُجتمع الويكيبيدي العربي أثبت مراراً وتكراراً أنَّهُ قويٌّ مُتماسك بمُحرريه وإدارييه المُخلصين، صدَّ وسيصد جميع التخريبات بإذن الله، وستستمر ويكيبيديا العربيَّة منبراً لتقديم المعرفة الحُرَّة الموثوقة للقارئ العربي وكُل من يُلم بالعربيَّة، دون أن يتخلَّى مُجتمعها عن ثوابته وأحلامه ومُعتقداته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

باسم فليفل
مؤرِّخ وباحث وويكيميدي لبناني
حاصل على ليسانس في الحقوق والدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة بيروت العربيَّة. أعمل حاليًا في مكتبة يافث التذكاريَّة في الجامعة الأميركيَّة في بيروت. وأساهم بشكلٍ منتظم في موسوعة ويكيبيديا العربيَّة (المستخدم الأكثر مساهمةً حتَّى تاريخه) وفي بعض مشاريعها الشقيقة مثل ويكي مصدر وويكي بيانات وويكيميديا كومنز.
تحميل المزيد