"أبيض وشعره كيرلي".. "روح الروح".. " يا ريته حلم"، مشاهد فرضت نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي ولامست مشاعر العديد، حتى أصبحت بمثابة أرشيف توثيقي، يتابعها الملايين من الناس كل يوم.
فبينما يسرد التقرير التلفزيوني واقع الحياة في غزة بطريقة رتيبة وتقليدية، يجد المصور الميداني الذي يوثق الأحداث في غزة تفاعلاً عالمياً، في ظاهرة لافتة حشدت الرأي العام حول الإبادة التي تحدث في غزة، وإعادة النظر مجدداً في وضع غزة المحاصَرة منذ أكثر من 17 عاماً، ما دفعهم إلى البحث أكثر عن جذور القضية الفلسطينية، مما أعادها لتتصدر واجهة النقاش العام من جديد.
إذ استطاع المصورون الصحفيون والمؤثرون على مدار ساعات متواصلة من نقل وتوثيق لحظات القصف العنيف والتدفق الهائل من الجرحى والمصابين إلى المستشفيات، إلى جانب الدمار الهائل الذي خلّفه القصف الإسرائيلي على المدينة دون توقف، فضلاً عن توثيق مآسي الحياة اليومية لأهل غزة في ظل القصف الشديد وانقطاع الكهرباء والماء والطعام.
هذه المشاهد وغيرها كان لها تأثير واسع لدى الجماهير العالمية والعربية بشكل خاص، إذ أدى تأثيرها الملحوظ إلى تبني الشعوب القضية الفلسطينية بشكل أكثر عمقاً وقرباً للحقيقة، إذ يمكن القول إن الشعوب لا تتبنى القضية الفلسطينية فقط اليوم، لكونها قضية إنسانية فحسب، بل لكونها قضية تحررية أيضاً؛ إذ أعادت غزة اليوم بث الروح في الشعوب من جديد، من خلال إعادة تعريف معنى المقاومة والحرية، ومعنى أن تكون أنت سيد ذاتك، وهذا ليس انطباع ذاتي رومانسي، فبنظرة لتداعيات العدوان على غزة حول العالم، سنرى كيف حرّكت غزة جيلاً شبابياً كاملاً في وقت كانت القضية تتجه نحو النسيان، وبنظرة لشوارع في بلدان عدة سنلاحظ حراكاً شعبياً لم يسبق له مثيل؛ حيث تمتلئ المدن الأوروبية والأمريكية بمظاهرات أسبوعية لأجل إيقاف القصف ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه، في ظل انشغال العديد من القنوات الفضائية العالمية والعربية بأجندات إخبارية مختلفة ومضللة من أجل إعادة توجيه الرأي العام.
لكن على الرغم من ذلك، بقيت الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي تفرض وجودها في ظل التعتيم والتضليل، ولم يعد هناك مجال لتزوير الحقيقة أو تأويلها أو العبث بها، وبات مصور الميدان مصدر اخباري أساسي لشريحة واسعة من الناس، ومنح للفلسطيني فرصة لعرض قصته دون الحاجة إلى فلترة في نقل الحدث، وتحوّل الناس داخل غزة إلى وجوه معروفة للكثير منا، ننتظر أخبارهم ونقلق في حال غيابهم، فأصبحت المناطق والأزقة أقرب لنا، فلم تعد مجرد أسماء نسمعها ونقرأها على الصفحات الإخبارية، إنما باتت أزقتنا وحارتنا المشافي وأقسامها حاضرة في وعينا، نعلم تفاصيلها وأشكالها، وربما نعلم أعداد الناس الموجودين فيها.
برع مقاومون من نوع آخر عن طريق الكاميرا والضمير الحر، في خلق نمط جديد لنقل الصورة بوضوح وجودة حقيقة أعلى، مما ساعد في زرع رموز ومصطلحات مختلفة لدى الجيل الجديد، تأكيداً على أن سردية الإعلام الموجّه أصبحت من الماضي، فلم تعد حاكمة، إنما أصبح هنالك إعلام جديد حقيقي، ينقل الصورة بدون شوائب، فنرى العديد من الصحفيين والمصورين والنشطاء الذين لا نعرف أسماءهم ولا صورهم، يجمعون بين المهنية والشجاعة والإخلاص، مستعدين دائماً للتضحية لنقل الحقيقة لا غير، وهم يواجهون حرب العالم عليهم، مجردين من كل شيء سوى إنسانيتهم، شديدة الاستثنائية.
هذه الإنسانية الشديدة في نقل الحدث، هي ما جعلتنا نحن المشاهدين أقرب لأهل غزة، فرأينا كيف كان الجد يحتضن حفيدته بعد استشهادها واستشهاد أخيها في غارة إسرائيلية، وهو يمسح على وجهها بكل صبر ويقبّل جبينها بحنية، لامست كلماته مشاعرنا وأصبحت كأفضل ما قيل في الوداع.
بينما ذلك الطفل الذي صوّره أحد النشطاء، عندما كان الدفاع المدني ينتشله من تحت الأنقاض والدماء تغطي وجهه، وهو يشكر أحد رجال الدفاع المدني "شكراً يا عمو لأنك طلعتنا"، أو الأب الذي يحمل طفله الرضيع بعد ارتقائه بغارة إسرائيلية، ويشكر الله ويحمده ويقول "فدا فلسطين فدا المقاومة"، لم تكن صوراً عادية، وإنما نقلت لنا الحدث بكل تفاصيلها دون قطع أو مونتاج أو تعليق، وكانت هي ذاتها سبباً في الغضب والشعور العميق العارم الذي اجتاح العالم.
تقول إحدى مستخدمات مواقع التواصل "يمامة أوس"، عن أسباب متابعتها للأحداث عبر مواقع التواصل: "زادت متابعتي للأخبار بشكل عام وأحداث فلسطين على وجه الخصوص منذ ما يقارب السنتين، مع بداية أحداث الشيخ جراح والقمع الذي حدث في القدس ورأينا كل شيء بشكل مباشر، والآن في حرب الإبادة على غزة زادت متابعتي لها بشكل كبير، وسبب ذلك يعود إلى أن "النشطاء في الميدان ينقلون لنا الواقع كما هو على عكس القنوات الإخبارية التي تُفرض عليها رقابة معينة، فأنا كمتابعة أريد معرفة ما يجري بالضبط دون أي تغيير أو اختلاف أو نقص"، وتكمل "نحن نعلم ما يجري في فلسطين، وما يعانيه الشعب الفلسطيني من اضطهاد، ولكن لم تسجل الأحداث بهذا الشكل من قبل".
في العادة لا تتابع يمامة الأخبار ولا تعلم أي شيء فيما يجري في الساحة السياسية، وتقول "لست مهتمة بذلك"، ولكن "أحياناً أتابع أخباراً بسيطة عن سوريا ولبنان وفلسطين".
يمامة عراقية الأصل، وهي مثال حي ككثير من العراقيين الذين سئموا متابعة الأخبار المضللة التي لن تفضي إلى شيء، وتؤكد أن "أحد أسباب زيادة متابعتي للأخبار على مواقع التواصل، شعورنا بالعجز والتقصير الشديدين، وعلى الرغم من انشغالي أحاول الدخول إلى مواقع التواصل أشاهد وأتابع وأنشر، وهذا أقل ما يمكننا فعله مع الدعاء المتواصل لهم".
فيما تقول لبنى ثابت، إحدى مستخدمات مواقع التواصل أيضاً، إن متابعة الأخبار ومعرفة ما يجري لا تدخل ضمن أولوياتي، ولكن عندما بدأت أحداث غزة أحزنتني كمية المشاهد المؤلمة، أردت متابعة أخبارهم لمعرفة ما أحوالهم، وكيف هو شعورهم وذكرتني مجدداً اننا كذلك يوماً ما سنذهب".
وتؤكد لبنى، التي اختبرت القصف أثناء تحرير الموصل من داعش عام 2017، أن القضية الفلسطينية هي قضية أزلية بالنسبة لنا، وبعد هذه الأحداث كنا في انتظار حدوث شيء يعيد لنا الفرحة مجدداً، ولكن تحولت ليالي وأيام غزة إلى كارثة، وما دعاني إلى متابعة ما يجري هو شعوري وتفهمي لما يشعر به أهل غزة اليوم، فهذه الأحداث كان وقعها كبيراً بالنسبة لي".
وتضيف: إن متابعة النشطاء وما يُنشر على مواقع التواصل أسهل بكثير من فتح قناة إخبارية، وقد اختصر لنا كذلك جميع الأخبار في منصة واحدة، ويمكنك معرفة ما يجري في اللحظة ذاتها، إضافة إلى أن العديد من المشاهد لا نراها في القنوات الإخبارية، مثل مشاهد المصابين في المشافي، وعلى الرغم من قساوة المشهد، ولكن رأينا جزءاً من حقيقة هذا الاحتلال.
وتقول: عند تصوير النشطاء للأحداث وتوثيقها ونشرها، ليس لديهم ما يخسرونه من أجل نقل الحقيقة، فيما تحاول بعض القنوات والدول إخفاء حقائق لا تريد للشعوب رؤيتها مثلما يحدث في السودان.
في الحقيقة، هذه لم تكن المرة الأولى التي فرضت فيها مواقع التواصل الاجتماعي تأثيراً حقيقياً، ولكنها بالتأكيد الأقوى على الإطلاق، قبل عامين ومع تصاعد الأحداث في حي الشيخ جراح قام ناشطون ومواطنون وصحفيون بمشاركة بث حي مفتوح لساعات، ووثقت الانتهاكات الإسرائيلية في القدس والاعتداءات العنيفة على المصلين.
اليوم تعددت طرق نقل الصورة والتفاعل معها مع دخول مواقع التواصل وظهور الصحفي الميداني، وأصبحت حسابات بعض الناشطين بمثابة منصات بديلة عن وسائل الإعلام التقليدية التي تقدم شكلاً معيناً أثناء تناولها للأخبار، وساعدت سهولة حمل الهواتف على مدار الساعة في تصفح العديد من مقاطع الفيديوهات والصور في ثوانٍ
ويقول رئيس منتدى الشرق، وضاح خنفر: إن مواقع التواصل هذه المرة فعلت شيئاً مهماً جداً بأنها بدأت في إيقاظ الناس للحقيقة التي يعرفونها وكانوا يعيشون معها، وهي أن مراكز النفوذ مراكز خادعة، كاذبة وتحارب الوعي.
وأشار خنفر إلى أن تفاعل الغرب بهذا الشكل مع ما يحدث في غزة والقضية الفلسطينية لم يكن فقط سببه وعيهم تجاه القضية، إنما وعيهم تجاه أنظمتهم "التي تحارب بشكل مستمر وعيهم الإدراكي في الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والتحرر والمساواة، وكل القيم الكبرى حاول الإعلام التغطية عليها، فكل من كانت لديه مظلمة بسبب ما حدث في غزة والإخفاق الهائل في الإعلام والتصريحات الرسمية، لم يتعاطف في الحقيقة مع غزة فقط، بل تعاطف مع ذاته كذلك".
سقوط الأقنعة
ربما من أبرز ما أظهرته الحرب على غزة، زيف الشعارات الليبرالية التي بُني عليها الفكر الغربي منذ مئات السنين، وسعيه المستمر في فرض نمط حضاري معيّن، هو لتنفيذ ما يتناسب مع مصلحته الشخصية ومنفعته المادية، حيث لم يعد هناك داعٍ بعد اليوم في تجميل بعض من هذه المصطلحات وتبريرها، وبعد أن كانت بعض هذه المحادثات تجري تحت الطاولة أصبحت في العلن والجميع يراها ويسمعها.
فالدعم المادي والمعنوي الأمريكي والأوروبي يجسد واقعة مخزية تطيح بجميع المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وحتى قوانين الحروب، إذ لم تلتزم الدول الغربية بسطر واحد من تلك المواثيق والقوانين التي طالما تغنّت بها وبدعمها للنظام الدولي القائم على المبادئ والأعراف. ولطالما اتهمت الدول الغربية الصين وروسيا وبقية دول العالم بعدم احترام هذه المبادئ، بل والسعي لتقويض القوانين والمؤسسات الدولية وانتهاك أعرافها، فيما يتصدون هم للدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية. لذلك تمثل حرب غزة اليوم، في أحد تجلياتها، زيف الادعاءات الغربية، وعدم مصداقية مساعيها.
ومن هذا المنطلق لا يسعك غير تفكيك الفكر الليبرالي الغربي الذي حكم العالم لقرون طويلة بقوانينه، ويضعك أمام تساؤلات عدة تعيد تعريفك بالفكر "الليبرالي المتحرر"، و"قوانين حقوق الإنسان العالمية"، التي أظهرتها حرب غزة لنا في أن قوانينهم التي صُكت لم تكن إلا مجرد حبر على ورق، واستخدمت ما هو مكتوب من أجل ضمان مصالحها من هذه القوانين وتوفير تغطية قانونية لها، وليس بسبب إيمانها بها.
ومن اللافت أيضاً أن ما فعلته الحرب على غزة هو ظهور نظرة جديدة عن العربي المسلم، عوضاً عن صورة الإرهابي التي أُلصقت به على مدار سنوات، استقبال أهل غزة لشهدائهم في صبر واحتساب وشكر لله، بهيئتهم العربية هو منظر لم يعتد عليه المواطن الأجنبي، وبروز ناشطين ومصورين وأطباء ووجوه مبدعة لها ثقلها في غزة، كانت كفيلة بتغيير صورة نمطية استمرت ما يقارب الـ30 عاماً، عملت هوليوود من خلالها في زرع صورة واحدة للإنسان العربي المسلم المتخلف و البدائي "الإرهابي".
وإذا أجريت جولة سريعة على مواقع التواصل، وقرأت التعليقات في صفحات النشطاء الأجانب، ستلمس هذا التغيير حتماً، حيث أشار الناشط الأمريكي شون كينغ في مؤتمر عُقد في الدوحة في قطر إلى أن أهل غزة مثلوا رداً صاعقاً على الأكاذيب التي قيلت عن الشعب الفلسطيني، وكذلك المسلم والعربي على حد سواء، فعندما نشاهد رجلاً بلحيته الكاملة وعمامته العربية التقليدية يتقبل خبر استشهاد عائلته و أقاربه بصبر، وهي ذات الصورة التي استخدمت لشيطنة المسلمين والعرب في كل فيلم إثارة أُنتج، فما رأيناه كان عكس ذلك تماماً وهو أن هذا الإنسان يحمل عمقاً وسكينة، متعلم ومثقف، وكان واضحاً منذ هذه اللحظة أن الفلسطيني وحده كان أقوى من آلة الدعاية الإسرائيلية، ولا يوجد كذب يروّج له الإعلام الأمريكي والإسرائيلي أقوى من مشاهد الغزاوي اليوم.
إن مواقع التواصل أنتجت وعياً كبيراً لدى شعوب العالم، وخصوصاً الشعوب في العالم الغربي، فلم يعد الفلسطيني رقماً، بل أصبح كل فلسطيني وكل جريح وكل شهيد قصة، يعلم حكايتها ويتابع مستجداتها المواطن في كل بلد في العالم، وهذا أمر لم يسبق له مثيل من قبل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.