إذا ما أردنا أن ننظر إلى الدعم الغربي (الولايات المتحدة وألمانيا على وجه الخصوص) لإسرائيل بصورة أوسع، وإذا ما أردنا أن نقيّم هذا الدعم؛ فعلينا القول بأنّ ما يهم هؤلاء هو شيء واحد فقط؛ هو استمرار الحرب على قطاع غزة، والاستمرار في التغطية على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. ومن يدّعي بأنّ هناك خلافاً أمريكياً إسرائيلياً أو خلافاً أوربياً إسرائيلياً حول الحرب الشعواء على قطاع غزة؛ فهو متوهم، فالخلاف إن وجد فهو حول الطريقة التي تقتل بها إسرائيل هذا الشعب، وليس في أصل المسألة.
مشاركة أمريكية في المجزرة
منذ بداية إعلان الحرب على قطاع غزة وقفت الولايات المتحدة بكل وضوح إلى جانب إسرائيل وهي تدرك تماماً أن حكومة نتنياهو المتطرفة لن توفر جهداً في قتل العدد الأكبر من المدنيين في قطاع غزة، وهي أيضاً ستعمل على تدمير البنى التحتية والمرافق الصحية وتدمير المباني الفلسطينية بغية التهجير القسري لأبناء القطاع. ومنذ اللحظات الأولى أرسلت حاملات طائراتها "يو إس إس أيزنهاور" و"جيرالد فورد" إلى المنطقة كي تهيئ الأجواء لإسرائيل للتفرد بشعب قطاع غزة.
ومن ناحية أخرى، وبدلاً من إقناع إسرائيل باستحالة تحرير المحتجزين الإسرائيليين عبر العمليات العسكرية وخارج إطار التفاوض، عملت الولايات المتحدة على مد إسرائيل بجسر جوي لإمدادها بالأسلحة والذخائر العسكرية، وهي لم تعمل على أي شكل موازٍ لتقديم المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم تارةً من الشمال إلى الجنوب وتارةً أخرى من الجنوب إلى الحدود المصرية. وهي أيضاً لم تكلّف نفسها بمحاولة إقناع إسرائيل بالسماح بدخول حجم مساعدات أكبر إلى القطاع عبر معبر رفح.
وتوّجت الولايات المتحدة شراكتها في المجزرة عبر استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار إماراتي جلّ ما يدعو إليه هو وقف فوري لإطلاق النار!! لا يمكن تصور هدف أمريكي آخر من استخدام الفيتو غير منع إنهاء الحرب على قطاع غزة وتحريض الإسرائيليين على المزيد من القتل والجريمة وتشريد المزيد من الفلسطينيين.
دعم سياسي وعسكري لا تبرره عقد الذنب
يصنف المعسكر الغربي نفسه تحت لواء المدافعين عن حقوق الإنسان، وهو بناءً على هذا التصنيف ينتقد الدول الأخرى ويفرض عليها العقوبات الاقتصادية لنقضها حقوق الإنسان، ولكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين فتصبح المعايير مختلفة، ويتحول الخطاب الحقوقي من الدفاع عن حقوق المدنيين إلى الإقرار بحق الدفاع عن النفس المزيف. لنأخذ ألمانيا على سبيل المثال، في بداية الحرب على غزة، امتنعت ألمانيا عن التصويت في الأمم المتحدة لصالح قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار. وبعد مرور أكثر من 72 يوماً على عمليات التصفيات العرقية التي تقودها إسرائيل في غزة، وبعد استشهاد أكثر من 18 ألف شهيد مدني فلسطيني جلّهم من الأطفال، امتنعت ألمانيا مرة أخرى عن التصويت لصالح قرار غير ملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة يقضي بوقف إطلاق النار بشكل فوري. كما كان المستشار الألماني ثاني الزعماء الأوربيين الذين تحط طائرتهم في إسرائيل لتقديم الدعم؛ حيث وجه رسالته الشهيرة بأن أمن إسرائيل مصلحة وطنية عليا لبرلين.
يعزو بعض المحللين السياسيين الدعم الألماني المستمر لإسرائيل إلى عقد الذنب إبان الحرب العالمية الثانية، ولكن مراجعة هذا الدعم في ظل الظروف الاقتصادية السيئة للاقتصاد الألماني، وفي ظل تحييد المعايير الأخلاقية والإنسانية وحقوق الإنسان، يحتاج إلى مبررات أخرى أكثر من مجرد عقدة الذنب.
اقتصادياً وبحسب مكتب الإحصاءات الألماني؛ فقد شهد الاقتصاد الألماني ركوداً اقتصاديا خلال عامي 2022 و2023، بالإضافة إلى انكماش في الناتج المحلي، ونمو اقتصادي صفري، وزيادة في الإنفاق الحكومي. وتشهد الموازنة كذلك عجزاً كبيراً عززه قرار المحكمة الدستورية الألمانية في مقاطعة "كارلسروه". ففي أعقاب شكوى قدمها 197 ممثلاً لأحزاب المعارضة الألمانية، أصدرت المحكمة الدستورية الألمانية في كارلسروه حكماً ضد الحكومة الفيدرالية الألمانية. وبناءً على هذا الحكم، تم تقييم الإجراء الذي اتخذته الحكومة الفيدرالية (الاشتراكيون الديمقراطيون والخضر والديمقراطيون الأحرار) في تغيير محل إنفاق 60 مليار يورو من "صندوق فيروس كورونا" المتبقي على أنه غير دستوري. وبناءً على ذلك، فإن الحكومة الألمانية ملزمة بتعويض عجز ميزانية صندوق المناخ (KTF) البالغ 60 مليار يورو، والذي سيتم تمويله من خلال زيادة الضرائب أو خفض التكاليف.
ووفقاً لما يسمى قانون "كبح الديون"، لا تستطيع الحكومة الفيدرالية الألمانية أن تتحمل سوى دين بنسبة 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي في ظل الظروف العادية. وبالطبع تم تعليق هذا القانون ولم ينفذ خلال أزمة كورونا ثم أزمة الطاقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، للأعوام 2019 إلى 2022، لتتمكن الحكومة من تغطية تكاليف هاتين الأزمتين الكبيرتين بمزيد من الديون. وبحسب تقديرات الحكومة الاتحادية، كان ينبغي تمويل 60 مليار يورو من هذا المبلغ من خلال صندوق كورونا. الآن، بعد حكم المحكمة، هذا غير ممكن، والصندوق لديه عجز قدره 60 مليار يورو، ومن المحتمل أيضاً أن تقوم الحكومة الألمانية بتعليق العمل بقانون "كبح الديون" لصالح تمويل الحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي ظل هذا الركود الاقتصادي والعجز في موازنة الحكومة تستمر ألمانيا بتمويل حربين مكلفتين للغاية في أوكرانيا وفلسطين. وفي رحلة البحث عن المبررات لهذا الدعم يبقى السؤال قائماً وهو: كيف يمكن ربط الدعم الألماني لإسرائيل بالأمن القومي الألماني حيث لا يوجد أي تهديد أو خطر فلسطيني على أوروبا وألمانيا؟
الجواب باختصار هو هجرة السياسات الأوروبية والألمانية المصرّح بها من تجنب الانخراط في النزاعات المسلحة الإقليمية، وتزويد أطرافها بالأسلحة، والتخلي عن الاعتبارات الإنسانية، وإمداد إسرائيل بالأسلحة والذخائر بشكل مباشر لتحقيق انتصار يرمم ما تبقى من الهيمنة الغربية التي تشوهت بفعل أبطال المقاومة في غزة. إنهم باختصار يحاولون إركاع الشعب الفلسطيني في غزة، لتصبح غزة وشعبها عبرة لكل قوة تجرؤ على تحدي الهيمنة الغربية في ساحات دولية مختلفة. ولتلطيف هذه المجازر ما زالوا في الولايات المتحدة وأوروبا يقولون لإسرائيل: "اقتلوهم ولكن بأسلحة مشروعة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.