بينما يتسع نطاق توحش الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على غزة، تُشهر اللوبيات الإسرائيلية سلاح "معاداة السامية" لتستهدف كلَّ من يُظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين، في ظل حملة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
تتبنَّى هذه اللوبيات وسيلة الابتزاز الأخلاقي كأسلوب فعال للإجهاز على أي نقاش حول الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته، في الولايات المتحدة ودول أخرى في العالم الغربي.
ومع استمرار العدوان على غزة تتصاعد حملة القمع، التي تستهدف فنانين وعلماء ومثقفين يعبرون عن تعاطفهم مع القضية الفلسطينية؛ إذ يواجه هؤلاء التهديدات والطرد من أماكن عملهم، وتتسارع الجهود لقمع الرأي العام المساند للفلسطينيين وحقوقهم.
ويُعد ما حدث في كبرى الجامعات الأمريكية مؤشراً على نفوذ تلك اللوبيات وقدرتها على ابتزاز أي شخص يدعو إلى المساواة وتعزيز حرية الرأي والتعبير.
في أوج عدوان الاحتلال الهمجي ضد المدنيين في فلسطين تم استجواب رؤساء ثلاث من أقوى وأشهر الجامعات الأمريكية، بحجة اتهامهم بارتفاع حاد في معاداة السامية داخل الحرم الجامعي. تم استدعاء رئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، ورئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) سالي كورنبلوث، إلى جلسة خاصة من قِبل لجنة التعليم بمجلس النواب بالكونغرس، يوم 5 ديسمبر/كانون الأول الحالي بعنوان "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".
بدأت الجلسة بدقيقة صمت على الإسرائيليين الذين قُتلوا وجرحوا واحتجزتهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بالإضافة إلى مونتاج فيديو قصير لمتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين بالجامعات الثلاث، يدعون إلى "الانتفاضة"، وقالت النائبة الجمهورية من ولاية نيويورك إليز ستيفانيك (خريجة جامعة هارفارد) إنه يمكن تفسير ذلك على أنه "دعوة إلى العنف ضد إسرائيل وأولئك الذين يدعمونها".
بينما زايد بعض أعضاء اللجنة على النائبة، حين شبّهوا دعوات بعض الطلاب المتظاهرين بالتحريض على "ارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب اليهودي في إسرائيل والعالم"، ورغم أن رئيسات الجامعات الثلاث كنّ جالسات يتلقين الاتهامات بكل حدة، قمن بشرح مفصل امتد لثلاث ساعات. مؤكدات خلال ذلك أن هذه المظاهرات تأتي في إطار حرية الرأي، مشيرات في الوقت نفسه إلى الإجراءات التأديبية التي اتُّخذت ضد الطلاب فيما يتعلق بمسائل معاداة السامية، ورغم إدانتهن لحماس فإن هذه الإجابات، وخصوصاً إجابة كلودين غاي لم ترضِ اللجنة، بل طالبتها بالاستقالة.
رغم ما قدمته الرئيسات الثلاث للجامعات الأهم في الولايات المتحدة من إجابات قانونية طويلة، كانت ردود الأفعال عليهن سريعة ومكثفة، بل هدد مانحون بإلغاء ملايين الدولارات المقدمة إلى المؤسسات، وكتب 74 مشرّعاً رسائل تطالب بإقالتهن فوراً.
الحقيقة لا غرابة في ذلك، فمجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل داخل الولايات المتحدة لطالما طاردت ومارست الضغط والتهديد على مديري المدارس والموظفين العموميين والنشطاء والحقوقيين، حين يحاولون إظهار دعمهم لكل ما يتعلق بفلسطين، فهم يخافون أن تظهر الحقيقة للشارع الأمريكي، وقد نشر مركز الحقوق الدستورية ومؤسسة فلسطين القانونية تقريراً في عام 2015، جاء فيه: "إن هذه الاتهامات شملت اتهامات كاذبة بمعاداة السامية أو دعم الإرهاب، وتهديدات قانونية وتحقيقات جنائية، وإنها نجحت في كثير من الأحيان في تخويف أو ردع نشطاء التضامن الفلسطيني من التحدث علناً".
وبعيداً عن الحديث عن لوبيات الضغط في الولايات المتحدة ومدى تأثيرها على عملية صنع القرار وتنحية أصوات الحرية، أظهرت حرب غزة مدى تضاؤل مساحات الحرية في العالم، إذ يبدو أن السياسيين يحاولون السيطرة على الأكاديميين، بمعنى أن السياسة تستعمر العلم، عبر وسائل مختلفة؛ إذ نرى كيف لتهديد بقطع التبرعات بملايين الدولارات أن يهز أكبر المؤسسات الأكاديمية في العالم، فحينها تصبح الجامعات غير قادرة على تلبية احتياجاتها الاقتصادية، ما يعني أنها ستضطر إلى التنازل عن الحريات الأكاديمية في مواجهة خطر أن تصبح غير صالحة للعمل.
إن تعامل بعض الأكاديميين في العالم مع القضية الفلسطينية في إطار علمي، وخاصة تفكيكهم للخطاب الإسرائيلي، وإعلانهم أنه ليس لدى الاحتلال الإسرائيلي أي مبرر قانوني أو أخلاقي لهجماته المتوحشة، جعل الأكاديميين هدفاً وجب قنصه من قبل الاحتلال؛ لذلك نرى كمّ المحاولات للنيل من أي شخص لا يتبنى خطابات قوات الاحتلال الإسرائيلي.
فعلى سبيل المثال، سحبت دار النشر الفرنسية العريقة "فايارد" كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، والذي يعتبر أحد الأعمال المهمة التي تناولت الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، بينما سحبت مؤسسة "هاينريش بول" التابعة لحزب الخضر الألماني دعمها لمنح جائزة "حنة آرندت للفكر السياسي"، للكاتبة الروسية الأمريكية ماشا غيسين، بعدما أدانت الحرب الإسرائيلية على غزة في مقال لها نشر في مجلة "نيويوركر"، بعنوان "في ظل الهولوكوست"، شبّهت فيه غزة بغيتو وارسو.
إن ما يجري في غزة اليوم لا يعنيها فقط، بل يعني العالم، فالمجازر في تلك الأرض المحاصرة عرَّت العالم وأظهرت أن مساحات الحرية فيه تتلاشى بفعل المال والهيمنة، فنرى كيف ان أغلب المؤسسات الأكاديمية الغربية تتخذ أغلبها مواقف تتناقض مع قيمها.
إن ما يجري في غزة اليوم هو على مرأى من الجميع، وعلى الهواء مباشرة، وبدعم كامل من الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية، لذلك تثبت حرب غزة في مضمونها بداية لتحرير العالم وليس الفلسطينيين فقط، فمن يملك المال يملك السلطة ويفرض أجندته الخاصة وسرديته الخاصة، حتى ولو عكس التاريخ، ما يبدد الحقيقة في عالمنا، وتظهر الحرب اليوم كيف أن من يدفع المال هو الذي يعزف اللحن السائد في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.