"كنتم مكوَّمين هناك، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال… البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج إنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء".
كتاب "أرض البرتقال الحزين" هو تحفة أدبية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، يتألف من مجموعة قصصية تعكس حياة متنوعة ومأساة شخصيات مختلفة. تشدد هذه القصص على توحيد الخيوط المشتركة في معاناة الشعب الفلسطيني، مع مواضيع متنوعة تتناول التهجير والترحيل، والجرائم والانتهاكات، والفقدان، وحياة المخيمات.
يُظهر الكتاب بشكل أليم تأثير هذه التجارب على الحياة اليومية للفلسطينيين، وكيف ترسم قصصهم لوحة حية ومؤلمة للواقع الفلسطيني؛ إذ كان كنفاني بارعاً في استخدام الرواية لنقل الصورة الحقيقية للظروف المؤلمة التي واجهها الشعب الفلسطيني.
من خلال استخدامه للغة السرد الجذابة، القادرة على جذب القارئ ونقله إلى عالم الشخصيات والأحداث. بالإضافة إلى ذلك، يبرز كنفاني الجوانب الإنسانية لمعاناة الفلسطينيين، ما يعزز فهم القارئ للواقع الصعب الذي يعيشه وعايشة كل فلسطيني.
بكلمات صريحة ومواجهات مباشرة بين الشخصيات استطاع غسان كنفاني أن يصور كيف تحول الإنسان الفلسطيني الذي كان يمتلك وطناً إلى حالة يستغلها رجال السياسة، إذ يتداخل الأدب مع السياسة عند غسان كنفاني، حتى إن بشير أبو منّة، مدير مركز الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في جامعة "كنت" البريطانية، يعتبر في كتابه "الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر" أن الأدب عند كنفاني سبق السياسة وأدى إليها أيضاً. ويقول أبو منّة، إن مساهمة كنفاني الأدبية في واقع التشرد والحرمان الفلسطيني دفعته إلى العمل السياسي.
لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها.. وأخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد.. وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي بيوته. كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة.
اهتم غسان كنفاني أيضاً، من خلال شخصياته في الكتاب، بمناقشة العديد من القضايا الإنسانية، حيث ناقش قضية اعتقال المواطنين دون وجه حق وتهجيرهم، وكيف يُطرد أصحاب الأرض منها ليصبحوا لاجئين في أراضٍ أخرى، ومن يعارض هذا المصير يتعرض للقتل أو الاعتقال بين القضبان، فنرى كيف تتكاثف المشاعر وتتداخل الأزمنة في شخصياته، ونرى بألم كيف توضح تعلق بعض الشخصيات في الماضي رغماً عنها حينما يحكي: "لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها.. وأخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد.. وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي بيوته. كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة".
قام كنفاني بتصوير مراحل النكبة وبعض المشاهد منها، مثل النزوح من يافا وعكا والوصول إلى صيدا، وفي سياق ذلك، يقول الكاتب: "كنتم مكوَّمين هناك، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال… البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج إنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء". في كل قصة يرويها الكاتب، تأتي قصة أخرى لتنافسها في مأساتها، لتخبرنا بأنها أكثر حزناً وبؤساً من سابقتها.
ولم ينس كنفاني أن يقدم وجهة نظر المقاومة حيال القضية الفلسطينية، كما سلط الضوء على ردود الفعل العربية تجاه ما يحدث في فلسطين، حيث نجده يصور بعض الشخصيات التي ترمز إلى مفاهيم مختلفة، مثل أبو علي الذي يمثل المقاومة الفلسطينية ويختطف السلاح من جندي إسرائيلي، ثم يأتي جنديان مصري وسوري ويختطفان السلاح منه ويتركانه للصهاينة، وهما يمثلان سكوت الدول العربية تجاه ما يحدث في فلسطين.
استطاع غسان كنفاني، ببراعة شديدة تسليط الضوء على الإسقاطات الإنسانية في كل قصة، حيث قدّم تفاصيل دقيقة حول حياة الشخصيات في إطار السرد القصصي، ما جعل القارئ مندمجاً تماماً في العوالم الشخصية والصراعات الإنسانية التي تعكسها.
"أرض البرتقال الحزين"، لقبٌ يدرك غسان كنفاني جيداً أنه يليق بمدينة يافا الفلسطينية التي اشتهرت بزراعة هذه الفاكهة الحمضية على مدار مئات السنوات، حتى صارت مرادفة لها ومتلاصقة بها؛ فتحوّل برتقال يافا إلى رمز يحمل الكثير من الألم في التاريخ الفلسطيني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.