تشكّلت علاقة المسرح العراقي مع القضية الفلسطينية بأوجه تعبيرية متنوعة؛ حيث دائماً ما كانت تبرز ردود الأفعال السريعة من قبل الفنانين المسرحيين تجاه القضايا الوطنية والإنسانية. هذا التفاعل الفني أظهر نفسه بوضوح في الأعمال الفنية التي خلّدت تجارب الحروب التي خاضها العرب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مشكّلة بذلك صوراً فنية حية للتحديات والمعاناة.
تجسدت العلاقة المبكرة في زيارة فرقة الزبانية المسرحية للجبهة خلال حرب عام 1948، حيث قاموا بترفيه الجنود العراقيين في معسكراتهم وثكناتهم العسكرية من خلال غناء الأغاني الوطنية والعاطفية وتقديم عروض مسرحية كوميدية ساخرة على الحواجز الأمامية للجبهة.
لقد أحدثت أعمال الكاتب والأديب ألفريد فرج في مسرحية "النار والزيتون"، والمسرحي سعد الله ونوس في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، والكاتب المسرحي يسري الجندي في مسرحيتيه "واقدساه" و"الطريق"، وعلي عقلة عرسان في مسرحية "فلسطينيات"، تأثيراً كبيراً ومؤثراً في نفوس المسرحيين العراقيين؛ حيث استلهموا من تلك الأعمال الفنية القوة والإلهام لتنتقل إلى خشبة المسرح بفعل تفاعلهم الشديد مع الأحداث الكبيرة مثل حرب عام 1967 والتحول الدرامي الذي نجم عن صدمة تلك الحرب على الثقافة العربية؛ حيث تحوّل الاهتمام نحو الكوميديا السوداء والسخرية في أعمال المسرحيين الفنية.
بينما قدّم الرائد المسرحي جاسم العبودي إسهامات بارزة في تجسيد المسرحيات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، من خلال تبنيه تقنيات مسرح المواجهة والمسرح التسجيلي المستلهمة من الكاتب و الرسام الألماني بيتر فايس والمسرح الملحمي (البريشتي).
قدّم العبودي مسرحيتي "الطريق" و"حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، وحققت المسرحية الأخيرة نجاحاً كبيراً وتركت أثراً إيجابياً على الجمهور، وأحدثت تغييراً جذرياً في طرق تفكير المسرحيين الحديثين واستخدامهم للتقنيات المسرحية المعاصرة لخدمة القضية الفلسطينية؛ حيث استخدام الأسلوب التأريخي وتضمين القضية الفلسطينية بشكل رمزي واستعاري غير مباشر، مستلهمة من كتابات الشاعر الفلسطيني الذي وُلد في مدينة غزة، معين بسيسو في "ثورة الزنج".
نجحت المسرحية في تصوير الظلم والتهجير الذي تعرض له الفلسطينيون على يد الاحتلال، ومقارنة تلك المأساة بالأحداث التاريخية في البصرة في القرن الثالث الهجري.
وتجدر الإشارة إلى الجهد الأدبي المهم الذي قام به الكتّاب العراقيون في تطبيق تقنيات الأعداد والاقتباس والتوليف لاستلهام قضية فلسطين، سواء من خلال شعر المقاومة أو الكتابة الخالصة، بناءً على الأرشيف والوثائق والبيانات المتعلقة بالحروب العربية ضد الاحتلال وثورة الحجارة.
قدّم جليل القيسي نصاً بعنوان "جد عنواناً لهذه التمثيلية"، وقام سامي عبد الحميد بإخراجها لفرقة المسرح الفني الحديث. تحكي القصة عن صمود الشهداء الفدائيين ورفضهم للدفن حتى يحرروا الأرض والبحر من الاحتلال.
هناك أيضاً مسرحية "أنا ضمير المتكلم" والتي أخرجت عام 1973، وضمت مجموعة من قصائد المقاومة الفلسطينية لمحمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني وأحمد مطر وغيرهم.
قدَّم الكاتب المسرحي محيي الدين زنكنه العديد من النصوص المتعلقة بالقضية الفلسطينية. لكنه أخذ أسلوباً آخر، فخلال مسرحيتيه "تكلم يا حجر" و"السر" اتجه بعيداً عن الخطاب المباشر والتمجيد الشعري البطولي، واستخدم بدلاً من ذلك النوع المونودرامي لإنتاج نصوص مقاومة تحكي عن علاقة المقاوم الفلسطيني بالحجر، لاقت هذه المسرحيات رواجاً كبيراً وأحدثت تحولاً فنياً في مسرح المقاومة.
ومن بين الأعمال المسرحية الأخرى التي تسلط الضوء على القضية الفلسطينية، تأتي مسرحية "أين هو الضوء الأخضر؟" التي أعدها الراحل عزيز عبد الصاحب، وقدمها حميد الجمالي. قدمت المسرحية عام 1972 وكانت تهدف إلى تحريك الجماهير وإثارة الوعي بالقضية الفلسطينية من خلال قصائد المقاومة وأعماله الشخصية. بينما استطاعت مسرحية "الخرابة" ليوسف العاني، أن توضح الظلم الذي تعرضت له فلسطين وشعبها.
مع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، شهد الخطاب المسرحي تغييراً في طرح القضية الفلسطينية، حيث غُيِّرت النبرة من المواجهة بين الأطراف إلى صوت الحوار والجدل. وكانت من بين تلك الأعمال مسرحية "البديل" التي كتبها الشاعر والروائي يوسف الصائغ والكاتب فلاح شاكر.
وكانت قصة المسرحية تدور حول عالم إسرائيلي نووي يحتاج إلى زرع قلب سليم بدلاً من قلبه المريض. وللمصادفة كان بنفس المشفى شاب فلسطيني مقاوم جسده يعاني من جروح بالغة، فتظهر الجدلية الفلسطينية بشكل واضح، عندما تعرض زوجة العالم على أهل المقاوم أن تأخذ قلب ابنهم مقابل مبلغ مالي كبير، لكن يرفض الأب والأخ والزوجة إتمام هذه الصفقة المستحيلة، وفي النهاية يموت المريضان معاً في المستشفى.
كانت المسرحية فريدة في معالجة القضية الفلسطينية؛ إذ ملأتها بالتراجيديا، ومن زاوية إبداعية جديدة، فلاقت شهرة وأحدثت تأثيراً كبيراً؛ إذ تم تقديمها ثلاث مرات برؤى إخراجية مختلفة، فكان المخرج الراحل محسن العزاوي أول من تعامل معها في عام 1995 مشاركاً بها في مهرجان قرطاج الدولي في تونس في نفس العام. ومن ثم أخرجها أيضاً المخرج والممثل إحسان الخالدي في عام 1997 ثم مجدداً أخرجها الممثل والمخرج سنان العزاوي في عام 2000 وسافر بها إلى مهرجان القاهرة التجريبي.
في الختام، يتجلّى الترابط العميق بين المسرح العراقي والمسألة الفلسطينية من خلال الأشكال التعبيرية المتعددة التي اتخذتها هذه العلاقة، فقد رسم المسرح العراقي بريشة فنه لوحات تعبيرية حية، تنعكس فيها الوطنية والإنسانية.
لقد أظهر المسرح العراقي روح المقاومة والتضامن العربي في وجه التحديات التاريخية والإنسانية، وذلك من خلال تجسيد قصص وشخصيات تعكس الآلام والتحديات التي تواجهها فلسطين والأمة العربية. هكذا، يظهر المسرح كوسيلة فعّالة للتعبير عن الروح الوطنية والمأساة الإنسانية، مما يوضح الدور البارز الذي يلعبه الفن في تشكيل وجدان الشعوب ونقل تجاربها بطريقة مؤثرة وملموسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.