توفي قبل أيام عن عمر يناهز 100 عام، هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ومستشار الأمن القومي الذي فرَّ من ألمانيا النازية ليصبح واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً وإثارة للجدل في التاريخ الأمريكي، ليصبح رمزاً للقوة المهيمنة والمستقطبة في السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ كان يمثل كل ما هو متعجرف ومستبد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
كان كيسنجر مرادفاً للسياسة الخارجية الأمريكية في السبعينيات. حصل على جائزة نوبل للسلام لمساعدته في الترتيب لإنهاء التدخل العسكري الأمريكي في حرب فيتنام، ويُنسب إليه الفضل في الدبلوماسية السرية التي ساعدت الرئيس ريتشارد نيكسون على فتح الصين الشيوعية أمام الولايات المتحدة والغرب، وهو ما أبرزته زيارة نيكسون للصين في عام 1972.
ورغم أن كيسنجر كان يؤمن بعدم جدوى الحرب الأمريكية في فيتنام، فإنه تآمر مع حملة ريتشارد نيكسون الانتخابية عام 1968 من خلال تسريب معلومات إليها من محادثات السلام في باريس لإطالة أمد الحرب، خشية فوز الديمقراطيين في الانتخابات.
وبعد توليه منصب مستشار الأمن القومي في عام 1969، قرر كيسنجر تكثيف القصف التكتيكي السري لكمبوديا، والذي بدأ في عهد جونسون في عام 1965، ليتحول إلى حملة وحشية من القصف الشامل استمرت حتى عام 1973.
وفي أوائل مارس/آذار 1969، قال كيسنجر لنيكسون: "اضربهم!". وبحلول عام 1973، قُتل ما بين 150 ألفاً ونصف مليون كمبودي.
ودفع نيكسون لتنظيم انقلاب عسكري عنيف في تشيلي ضد الرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي، ما أخضع البلاد للحكم الفاشي على مدى العقد ونصف العقد التاليين.
وفي الشرق الأوسط، تحفظ الذاكرة دورَ هنري كيسنجر جيداً، وما أصبح يعرف باسم "الدبلوماسية المكوكية" للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد تداعيات حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
وفي قرار مثير للجدل والدهشة والسخرية، تقاسم كيسنجر جائزة نوبل للسلام عام 1973 مع نظيره الفيتنامي الشمالي لِه دوك ثو عن اتفاقيات باريس للسلام في ذلك العام. وبسبب غياب السلام الفعلي في فيتنام، رفض ثو قبول الجائزة، بينما استقال اثنان من أعضاء لجنة نوبل احتجاجاً على الجائزة.
لقد سالت دماء كثيرة بسبب سياسات كيسنجر التي تُوصف بالواقعية، وعلى الرغم من ذلك نجح كيسنجر في الاحتفاظ بمكانة كبيرة باعتباره الدبلوماسي الأهم والأثقل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ظل يُكرَّم في مناسبات عدة من الإدارات المتعاقبة.
فحتى بعد أن تضاءل دور الرجل مع تراجع الرئيس ريتشارد نيكسون وسط فضيحة ووترغيت، إلا أن كيسنجر استمر في كونه محركاً وهزازاً مستقلاً ومؤثراً، إذ كانت تأملاته حول الدبلوماسية تجد آذاناً مصغية دائماً من قبل صناع السياسة الأمريكية حتى وفاته. فبعد تركه وزارة الخارجية في عام 1977، أصبح كيسنجر مؤلفاً غزير الإنتاج ومستشاراً دولياً.
ظلت كتاباته ونصائحه بشأن الجغرافيا السياسية مطلوبة للقراءة في مجتمع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وخارجها، حتى مع استمرار منتقديه في انتقاده.
هذه الحفاوة الشديدة بذلك الرجل الذي سالت دماء الملايين جراء سياسته، ربما تشير إلى سمة الغطرسة والكبرياء التي تطغى على السياسة الخارجية لواشنطن، والتي تتضح كل يوم في تصريحات الخارجية الأمريكية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي لإبادة الفلسطينيين في غزة.
غطرسة أمريكا
يردد قادة الولايات المتحدة بشكل روتيني أن الولايات المتحدة تؤيد "نظاماً دولياً قائماً على القواعد"، وأن واشنطن حاولت دائماً لعب دورها كزعيم عالمي يتزعم محور الخير. لكن الواقع هو بالتأكيد أقل صدقاً وأكثر نرجسية؛ إذ إن موقف واشنطن الفعلي منذ الحرب العالمية الثانية لم يتسم إلا بالنرجسية المتعجرفة والغطرسة حتى يومنا هذا.
ولعل التعبير الأكثر إيجازاً عن هذا المنظور كان تعليق وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت خلال مقابلة أجريت معها في فبراير/شباط عام 1998 وقالت: "إذا كان علينا استخدام القوة، فذلك لأننا أمريكا؛ نحن الأمة التي لا غنى عنها. نحن نقف شامخين ونرى المستقبل أكثر من البلدان الأخرى". ولكن هذا الشعور كان موجوداً قبل أولبرايت، واستمر لفترة طويلة بعد رحيلها عن منصبها. ونلاحظ النبرة نفسها في خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس جورج بوش الأب عام 1991. وهو صاحب عبارة "النظام العالمي الجديد". وقال حينها: "على مدى أجيال، قادت أمريكا النضال من أجل الحفاظ على الحرية وتوسيع نطاقها. واليوم، في عالم سريع التغير، أصبحت القيادة الأمريكية أمراً لا غنى عنه. ويدرك الأمريكيون أن القيادة تجلب الأعباء والتضحيات. لكننا نعرف أيضاً لماذا تتجه إلينا آمال البشرية. نحن أمريكيون؛ لدينا مسؤولية فريدة للقيام بالعمل الشاق من أجل الحرية. وعندما نفعل ذلك، تنجح الحرية".
هذه النظرة والنبرة الاستعلائية للسياسة الخارجية لم تغب عن ممارسات وتصريحات القادة الأمريكيين، سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين، فحتى الرئيس جو بايدن الذي تتسم فترته الرئاسية بالضعف والتراجع، ألقى كلمة في فبراير/شباط عام 2021 أمام مؤتمر ميونخ الأمني السنوي، قائلاً: "أتحدث اليوم كرئيس للولايات المتحدة في بداية إدارتي، وأبعث برسالة واضحة إلى العالم: لقد عادت أمريكا. وكانت النتيجة الواضحة هي أن الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، أهملت، إن لم تكن خسرت دورها كزعيم عالمي".
ولم تقتصر الغطرسة والنرجسية على الخطابات المبالغ فيها من جانب قادة الولايات المتحدة. وغالباً ما كانت تحكم جوهر السياسة الأمريكية. ومن الأمثلة على ذلك الطريقة التي تعاملت بها إدارة بيل كلينتون مع قضية برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية في عام 1994. واحتلال العراق في عهد بوش الابن، والذي تم رغم عدم موافقة مجلس الأمن، وغيرها من التدخلات في شأن الدول بالقوة العسكرية. هذا ناهيك عن التصريحات الدائمة المليئة بالتهديد والوعيد لكل من يخالف هوى الإدارة الأمريكية.
ولا تقتصر العنجهية الأمريكية على المغضوب عليهم فقط من قبل الإدارة في واشنطن، بل تطول الحلفاء أيضاً، لكنها في شكل لا مبالاة.
الإدارة الأمريكية لا تبالي بحلفائها
إن مثل هذه اللامبالاة لرغبات الحلفاء فيما يتعلق بالقضايا ذات المخاطر العالية هي التي ميزت سلوك واشنطن على مدى عقود. أحد الأمثلة على ذلك هو كيف عمل المسؤولون الأمريكيون على نسف أية مبادرات أمنية للحلفاء إن لم تكن للولايات المتحدة المسؤولية فيها بشكل واضح. فالولايات المتحدة لا تأخُذ عند صياغة سياساتها وتحديد خياراتها مصالح حلفائها بعين الاعتبار.
ولقد ظهر موقف واشنطن الخانق بشكل كامل خلال حادثة وقعت في أواخر التسعينيات، حين سعت فرنسا وعدد قليل من الدول الأوروبية الأخرى إلى إنشاء سياسة الأمن والدفاع الأوروبية. والتي سيكون لها قدرات عسكرية أوروبية بحتة وتعمل خارج إطار الناتو، من خلال الاتحاد الأوروبي على الأرجح. والحقيقة أن الحلفاء المستقلين اقترحوا إنشاء قوة رد سريع تحت السيطرة الأوروبية لتنفيذ خطة الأمن والدفاع الأوروبية.
وقد انتقد جون بولتون، الذي سيصبح مسؤولاً سياسياً كبيراً في إدارة بوش، ثم مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، بشكل خاص، قوة الرد السريع ووصفها بأنها "خنجر موجه إلى قلب الناتو". (وهي عبارة استخدمها مرة أخرى في وقت سابق من هذا العام فيما يتعلق بأية مبادرات دفاعية أوروبية مستقلة). وتحت تأثير بولتون، أظهرت إدارة ترامب عداءً شديداً عندما أحيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فكرة إنشاء جيش يتبع الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن الإدارات الأمريكية، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، اشتكت بشكل روتيني من أن الدول الأوروبية لا تستثمر في الدفاع عن نفسها، وتفشل في قبول ما يكفي من "تقاسم الأعباء"، إلا أنها كانت على القدر نفسه من الإصرار على معارضة المبادرات الأمنية المستقلة من قبل هؤلاء الحلفاء. ويريد المسؤولون الأمريكيون تقاسماً أكبر للأعباء، ولكن فقط داخل حلف شمال الأطلسي، حيث تتخذ الولايات المتحدة معظم القرارات. وبعبارة أخرى، فإنهم يسعون إلى بذل جهود أوروبية أكبر للمساعدة في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
إنهم يريدون دائماً أن تكون واشنطن هي المسؤولة، حتى عندما تؤدي هذه السياسة إلى زيادة الأعباء المالية والمخاطر العسكرية على الشعب الأمريكي. لكن الحقيقة أنهم يحتاجون إلى سياسة خارجية أكثر تواضعاً.
أمريكا تحتاج إلى سياسة أقل عنجهية
رغم مرور أكثر من 100 عام على خطاب الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" الذي ألقاه في عام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث تنسب إليه مقولة: "إن عَلَمَ أمريكا ليس علَمها وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء". إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً لعنف وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليوود في تجميله.
نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيأون لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصادياً، وعسكرياً، واجتماعياً، وسياسياً.
تُظهر تصريحات السياسيين الأمريكيين درجة عالية من الفوقية والاستعلاء والترفُّع على الآخرين، والتكبُّر والعجرفة، والزهو.
لابد للولايات المتحدة أن تنسى تفوقها الماضي، لأن العالم اليوم يتحول من القطب الواحد إلى متعدد الأقطاب. وفي الواقع إن أمريكا ليست سوى واحدة من عدة جهات إقليمية فاعلة.
في العقود الماضية، فشلت الولايات المتحدة فشلاً ذريعاً من خلال الضغط على البلدان النامية لحملها على اتباع القواعد والقيم الأمريكية، بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن اليوم، مع صعود الصين وعلاقاتها الاقتصادية الموسعة، وبرامجها التنموية في مختلف أنحاء المنطقة، تحتاج الولايات المتحدة إلى الدخول في اللعبة الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية، بدبلوماسية أقل عنجهية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.