"جو بايدين خائف، يُحاصَر أينما ذهب، لن يستريح، لن يجد السلام. نَعده بألا سلام لصانعي الإبادة الجماعية". بهذه العبارات حاصرت مجموعة من الشّبان الأمريكيين فندقاً ينزل به الرئيس الأمريكي جو بايدن في مدينة دِنفر عاصمة ولاية كولورادو الأمريكية منذ يومين. ورفع سكان أحد الأحياء الكبيرة في مدينة ليستر البريطانية الأعلام الفلسطينية تضامناً مع غزّة، واحتل طلاب في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أحد المباني المهمة يوماً كاملاً، بعد أن وَجهت لهم إدارة المعهد رسالة بأن تظاهرهم لصالح فلسطين "تخريبي" و"فوضوي"، وتنوعت أشكال الرفض والاحتجاج الشبابي الغربي، رداً على مشاهد الموت الجماعي التي تظهر من فلسطين.
في الأيام الأولى التي أعقبت حدث 7 أكتوبر "طوفان الأقصى"، طغت الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، بأن ما حصل "اعتداء إرهابي مرعب ضد مدنييها"، ولكن مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، والمسمى بـ"السكاكين الحديدية"، ودموية الرد ضد المدنيين العُزّل من الأطفال والنساء والعجائز، وتدمير المستشفيات، ومراكز إيواء النازحين، وضرب قوافل الإغاثة الإنسانية، ووصف الناس هناك بـ"الحيوانات البشرية"، بدأ يتشكل الاتجاه الأوسع في الرأي العام في الغرب، وانقلبت الموازين على المستوى الجماهيري، حتى تلاشت سرديات المحتلين وحُلفائهم، وبدأت تفقِد زخمها، وخاصة في أوساط الشباب الغربي.
الجيل الجديد في الغرب يبحث عن المعنى
في كتابه "مرآة الغرب المنكسرة" اعتبر الدكتور حسن أوريد، بأن الغرب تحولت فيه القيم إلى سلعة، وعلى هذا المنوال، وفي الآونة الأخيرة، ظهرت كتابات نقدية غربية، استنطقت الحال، كما في كتاب "ما بعد الإنسان The Posthuman" للكتابة الأسترالية الإيطالية روزي بريدوتي، والتي أثارت الجدل بعد نقاشاتها حول دور النخبة السياسية الغربية في الترويج للنظريات الرأسمالية التي وصفتها بـ"المتوحشة"، كنظرية ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، حتى ضيّعت قيمة الإنسان، ومكانته، وصار الشعار في الغرب: "أنا أتسوق، إذاً أنا موجود".
ولكن، مع تعاظم الأزمات الأخلاقية والاقتصادية المعيشية، وحالة التأزم السياسي في بعض دول الغرب، ظهرت بعض المبادرات الشبابية تبحث عن القيمة، وعن الأخلاق التاريخية، وعن مركزية الإنسان، وبُناه الاجتماعية، وروابطه الإنسانية، ونماذجه السلوكية، وأخذ الشباب الغربيون بكل أطيافهم وألوانهم، يخرجون عن صمتهم في حملات إعلامية ووقفات احتجاجية، وجاءت جرائم الإبادة المروعة في غزّة، لتحرك شباب الغرب ضد النخب واللوبيات، بعد أن كانوا لا يزالون مقتنعين، ولو جزئياً، بالرواية الإعلامية التي تخص إسرائيل في بلدانهم.
كشفت المظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن غربية مؤخراً، لأجل فلسطين، من واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وبوسطن الأمريكية، وصولاً إلى تورنتو الكندية، ولندن البريطانية، وبرلين الألمانية، وأمستردام الهولندية، وفي إسكتلندا وأوسلو ومدريد وسيدني وملبورن وروما، عن حالة التحول في الرأي العام الشبابي تجاه الثقة بالنخب السياسية الغربية. وهكذا، بدأ يتشكل الزحف المعاند لهيمنة البروباغندا الإعلامية انتصاراً للشعب الفلسطيني، وحين قوبل الحراك الشبابي ذاك باعتقال بعض منظمي الاحتجاجات كما في الولايات المتحدة الأمريكية، وحظر بعض المظاهرات كما في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، في تناقض فاضح مع القيم الدستورية الغربية، زادت حدة الاحتجاجات الشبابية، ولم يعد الهدف الانتصار لقضية فلسطين فقط، وإنما خرجوا بالآلاف باحثين عن القيمة، وباحثين عن الغرب، وعن مكانة الأخلاق والإنسان فيه، بعدما رأوا كيف تغيرت تلك المعايير والمبادئ الإنسانية بين ليلة وضحاها.
انتكاسة الإعلام الغربي "التقليدي" في نظر الجيل الجديد
أسهم انحياز قنوات ومراكز إعلامية بارزة مثل CNN الأمريكية، وBBC البريطانية، وفرانس 24 الفرنسية، بالإضافة لمراكز وصحف إعلامية، ومؤسسات أكاديمية وثقافية أمريكية وأوروبية، لصالح الهجمات الإسرائيلية، في انكفاءٍ أوسع عنها كمصادر موثوقة للأخبار في نظر شباب الغرب، وأظهرت استطلاعات للرأي في بريطانيا، بعد عشرة أيام من بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة، أن نسبة تعاطف الشباب الجامعي مع الفلسطينيين تزيد عن أربعة أضعاف نسبة الشباب المتعاطفين مع إسرائيل.
وعوضت شرائح واسعة من الشباب الغربي مصادر معلوماتها، من وسائل الإعلام البديلة، والميديا النشطة، كبديل عن وسائل الإعلام التقليدية، التي دخلت في مأزق أخلاقي بشكل علني، وفشلت في تحقيق توازن في التغطية، حيث بدا أنها تحاول ترسيخ الرواية الإسرائيلية في وعي الجمهور الغربي، فمثلاً، تم تثبيت خبر "مقتل 1400 إسرائيلي في 7 أكتوبر" لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع من الحدث في الشريط الإخباري لقناة BBC البريطانية، في الوقت الذي تجاوزت فيه أعداد القتلى من المدنيين الفلسطينيين نحو 10 آلاف قتيل، واستخدمت بي بي سي على حسابها في منصة إكس، وصف "موت فلسطينيين" و"مقتل إسرائيليين"؛ الأمر الذي أثار موجة انتقادات واتهامات، بتعمُّد القناة صناعة رواية منحازة لصالح إسرائيل.
اهتزاز الثقة الشبابية في النخب.. هل بدأ تفكيك اللوبيات في الغرب؟
يشير الباحث الأمريكي البارز، جون سميث، إلى أن هناك اعتقاداً شائعاً بين بعض النقاد حول أن الديمقراطية الغربية، قد تحولت إلى أداة للطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة. يقول سميث: "على الرغم من الأفكار الجميلة حول تمثيل الشعب والحكم الشامل، إلا أن هناك مستويات عالية من الفساد والتحيز في هذه النظم، تجعل بعض الناس يشككون في فعالية الديمقراطية".
بدأ الشباب في الغرب، يفتش عن أسباب الانحياز السياسي والاقتصادي والإعلامي الرسمي، وراء الرواية المضللة التي تبثها إسرائيل، وحين بحثنا في الأمر، وجدنا أن أكثر الكلمات المفتاحية التي يبحث عنها في الغرب على محرك البحث جوجل "لوبي"، و"فساد"، و"توحش"، و"الحرية"، ومنها بحث بشكل واسع عن دور منظمة إيباك اليهودية الأمريكية في صناعة القرار السياسي والعسكري والإعلامي الأمريكي.
وإيباك تأسست في ستينيات القرن الماضي، وعملت على تكثيف جهودها في الولايات المتحدة الأمريكية لدعم إسرائيل، وعلى الرغم من أن نسبة اليهود في أمريكا لا تتعدى 3٪ من الشعب الأمريكي، غير أن دراسات وإحصائيات لنفوذهم تتحدث عن أن أكثر من 20% من أساتذة الجامعات الكبرى في أمريكا هم من اليهود، وحوالي 60% من كُتاب ومنتجي أقوى الأفلام والمسلسلات الأمريكية هم من اليهود، ناهيك عن الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، وكبرى شركات النفط والسلاح والغذاء، حسب توثيق دراسات ليهود معروفين أمثال الكاتبين سيمور ليبست، وإيرل راب في كتابهما "اليهود والحال الأمريكي الجديد".
كما تُصرح إيباك على موقعها الرسمي على الإنترنت أن مقابلاتها مع أعضاء الكونغرس الأمريكي تتجاوز 2000 مقابلة سنوياً، تُقدّم من خلالها تقارير ودراسات إستراتيجية عن الشرق الأوسط والعالم، ومدى إمكانية الاستفادة من الفرص المتاحة في كل منطقة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تثمر بحوالي 100 تشريع وقانون في الكونغرس والبيت الأبيض لصالح إسرائيل سنوياً. ورغم معرفة الشعب الغاضب في أمريكا، لقوة ونفوذ اللوبي اليهودي في مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية، ولكنه خرج عن صمته في تحدٍ واضح عبّر عنه نشطاء وفنانون ورجال أعمال وجامعيون ومحامون في مناسبات كثيرة.
تداعيات حِراك الجيل الغربي الجديد، وإمكانية التأثير
المواقف الشبابية الغربية الصارمة، وانخراط شرائح مجتمعية واسعة، وفي طليعتها غاضبون من الجالية اليهودية، في حركات تضامنية، دخلوا قاعات الكونغرس الأمريكي للتنديد بالإبادة الجماعية في غزّة، ومقاطعة حملة تبرعات بولاية بوسطن للجيش الإسرائيلي، عكست تقدماً جوهرياً في حوار القيم، ورفض سياسة النخبة الغربية، وأدت بشكل أو بآخر، لتغير بعض المواقف الغربية، ففرنسا التي زار رئيسها ماكرون إسرائيل متضامناً، وأرسل حاملة طائراته الهليوكبتر "ديكسمو" إلى شواطئ فلسطين داعماً لردها، صوّتت إلى جانب إسبانيا لاحقاً بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار، ويُصرح بتعاون وثيق مع قطر لتجديد هدنة إنسانية أطول من الأولى، وتحولات الموقف الفرنسي جاءت نتيجة التعاطف الشعبي الفرنسي الذي تصاعد لصالح الشعب الفلسطيني بنسبة لا تقل عن 47٪ بما يفوق نسبة المتعاطفين مع إسرائيل. وقاد الاحتجاج الشعبي في إسبانيا وبلجيكا، رئيسي وزراء الدولتين لعقد مؤتمر صحفي أمام معبر رفح، مطالبين بوقف الإبادة، وإدخال المساعدات الإنسانية.
وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن رفضه لاستهداف المدنيين، وقدم التعازي للعائلات الفلسطينية الكندية في البيوت والمساجد. وتم إقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان من منصبها من قبل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بعد الإدلاء بتعليقات مثيرة حول ليونة تعامل الشرطة اللندنية مع المسيرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، ووصفت تلك المسيرات بأنها "مسيرات كراهية". وفي المقابل، أعلنت دول إسبانيا والدنمارك والنرويج وأستراليا وبلجيكا وجنوب أفريقيا والبرازيل، بأنها ستعترف بدولة فلسطينية مستقلة، كحل ينهي هذه المأساة الإنسانية في فلسطين.
أحدثت حرب غزة هزات حقيقية لدى الجيل الجديد في الغرب، وضربت سمعة الدول الغربية "الديمقراطية" نتيجة انحيازها إلى إسرائيل؛ الأمر الذي ألهب النقاش لدى الرأي العام الغربي والعالمي فيما يتعلق بالمعيار المزدوج الذي اعتمدته الحكومات الغربية، وميزت فيه بين الغزو الروسي على أوكرانيا، والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهذا الاختلال، يُنبئ بربيع شبابي غربي في رحلة البحث عن المعنى، وإضعاف هيمنة النخبة الرأسمالية، واللوبيات الطاغية التي خلقت الأزمات السياسية والمالية والصحية في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.